الثلاثاء، 24 مايو 2011

الثورة التونسية واليسار الماركسي

من السابق لأوانه التكلم في تونس عن ثورة رغم كل ما حققته حتى الآن، وجلي على الأرض، انها ازالت رأس النظام المتشخص في رئيس الدولة، إلا أنها حتى الآن لم تؤسس لتحول ثوري على الأقل في المرحلة الراهنة، فالثورة بمفهومها العام هي انتقال المجتمع من نمط إنتاج إلى نمط آخر وهو تحول بنيوي عام يمس بنية علاقات الإنتاج داخل المجتمع التونسي، هذا التحول عبر عنه بيان جبهة 14 دجنبر الذي أعلنته اخيرا مجموعة من الهيآت السياسية والحقوقية، لكن يبقى السؤال المطروح هو: إلى أي حد تستطيع هذه الجبهة مواصلة طريق الثورة وإنجاز ما لم تنجزه عفوية الجماهير؟.
لا شك أنه بات واضحا الآن ومن خلال تجربة تونس أن أسلوب التحريض وتفعيل شرارة الجماهير فاق رغم عفويته ما كانت تنتظره الأحزاب التي يفترض نظريا أن تقود الجماهير بثبات نحو التغيير الحقيقي، وكان واضحا أن استعمال وسائل التعبئة المتاحة بوفرة كان فعالا ونوعيا أكثر مما هو استعمل في الثورات السابقة، بل إن دينامية الحركة المدينية في بعدها الحقوقي المطلبي كانت هي التي تؤطر الجماهير اكثر من الأحزاب، إنما كانت تنقصه جرأة التنظيم المسيس، وطبيعي أن يكون أفق هذه الحركة المطلبية محدودا في قتل الأفعى كما عبر الكثير عن ذلك، والتي شخصت في جوقة بن علي، والتي يمكن تجاوزها بعد سقوطه بسهولة وتقديم عناصرها واحدا واحدا ككبش فداء في إطار عملية تهييء إعادة انتاج نفس النمط بشكل جديد، فالمطلوب كثورة هو هدم البناء الذي تعشش فيه نظام بن علي وبناء نمط جديد كفيل باستثمار قوة عمل الشعب التونسي للتونسيين أنفسهم، أي قطع تلك العلاقة البنيوية التي تربط اقتصاد تونس بالآلية الإمبريالية، المطلوب هو تأميم جميع المرافق الإنتاجية وتحويلها لخدمة الإنسان التونسي، بهذا ستكون ثورة جديدة حقا، ليس فقط بآلية تفعيلها وتفاعلها وإشعاع شرارتها بل ستكون جديدة بما ستطرحه من إنجازات عملية على الأرض، في تحرير تونس من هيمنة القوى الرأسمالية سواء التونسية منها أو الاجنبية. في هذا الصدد، ومع أنه لا يمكن مطالبة الشعب التونسي بأن ينجز أكثر مما انجزه لوحده، إمانا منا بأن نجاح أي ثورة رهين باشتعال حرارتها في كل بلدان العالم نظرا لهيمنة نفس العدو الطبقي على شعوب العالم وليس فقط تونس أو مصر أو أي بلد، فالقوى الرأسمالية العالمية هي الافعى الحقيقية التي يجب استئصالها، وما أظهره الشعب التونسي من قوة عزم وتماسك بفضل وسائل الإتصال الجديدة تسمح بإمكانية تفعيل نفس التنسيق في التحرك على المستوى العالمي أو على المستوى الإقليمي على الأقل.
لقد أعطى شعب تونس درسا رائعا في التعبئة والإلتحام والتنسيق بفعل ما توفر بين يديه من وسائل جديدة، وعرف كيف يستفيد من التكنلوجية الجديدة في الإتصال والإعلام، وخاض حربا إعلامية رائعة استطاع من خلالها هزم الأفعى كما أعطى درسا مفيدا للقوى السياسية التي تتباكى بقلة الحرية وبنكوس همة النضال في صفوف الجماهير الشعبية ، وأظهر بشكل لا يقبل الشك كما أشرت في مقالات سابقة بأن قوى اليسار عندنا هي الميتة بهرميتها المشلولة، ومرضها السقيم البيروقراطي الخائن بفتات الوظيفة العمومية والزبونية المقيتة المتعفنة المتجاوزة حيث أصبح أمناؤها متخصصون في كتابة البيانات المفلسة (كتاب عموميون لا أكثر) مبدعوا الموت والرماد في أوطاننا المهترئة، فما أن سقط نظام الزفت السوفياتي حتى بدا الجميع يغني أناشيد العولمة وأنشودة “الظروف الإقليمية والدولية التي لا تسمح”، ابتدعوا خرافة النظام الشامل المؤطر للأنظمة الذي لا يسمح بالإنفلات على حد قول أحد الزملاء، خلقوا توجسات من أشباح الفكر الظلامي المتأسلم ليزرعوا فينا الإنتظار المقيت، خلقوا زعامات بهلوانية تتوارث الحزب على شاكلة الأنظمة الرجعية ذاتها، عولموا فينا ثقافة الخنوع بدل أن يعولموا ثقافة التحرر، ومأزقوا الفكر اليساري بشكل باتت ندواتهم المتصلبة تبحث عن هوية جديدة (ندوات ولقاءات هنا في هذا البلد أوذاك تبحث عن هوية جديدة لليسار وتشكك في منطلقاته، بل إن البعض اعتبره نظارة بليت ويجب تبديلها)، وكان من من نتائج البحث عن هوية جديدة هذه، تفريخ أحزاب جديدة يساروية وتقسيمها إلى تيارات لا تومن بالإختلاف وإن كانت تعلنه، حيث أصبح كل تيار ينتج نفس البيانات ونفس الثقافة في عملية كاريكاتورية تتوهم جديدا يخالف الآخر في لعبة مسرحية مفضوحة، قائمة على لبيرالية مبتذلة غسيلها التطاحن اليساروي، ( في المغرب مثلا نجد تيارا واحدا منقسما على نفسه في لعبة إبداع لغوية لا أكثر، يستند إلى نقطة مثلا يختلف تسلسلها في بياناتهم، وأعرف مثلا تيارا تروتسكيا في الشمال لا تربطه صلة بنفس التيار في الجنوب، نفس الشيء المضحك هذا يمكن ملاحظته في بيانات نقابية أيضا، يتمظهر اختلافها في بياناتها التي يختلف وضع تسلسل المطالب فيها) . إن ما فضحته بشكل جلي انتفاضة الشعب التونسي والذي يهمنا بالأساس هو يتم القوى اليسارية الماركسية وعزلتها عن ان تجس نبض الحراك الإجتماعي للجماهير واهتمام هذه القوى بقضايا أخذت طابعا أوليا رغم فقر العطاء فيها، إذ لا يمكن إفادة قضايا الشعب الفلسطيني أو العراقي أو غيرهما ما دام فضاؤنا تغطيه أنظمة رجعية دجنت مصائرنا بشكل بات وجودنا تحتها كعدم وجودنا.
إن الدرس الوحيد الذي يجب أن يستفيده اليسار عندنا هو كيف يعبئ ويتعبأ هو نفسه بإرادة الجماهير؟، كيف يستطيع أن يعكس همومها ويعبر عن إرادتها؟ كيف ينتظم داخلها؟ كيف يؤطر ويتأطر بها ويكسب هويته منها؟ كيف يتخلص قادته من عقدة الأنا التاريخية (الرمز الهلامي، الحكيم بمعنى آخر الذي يحمل الخبرة والتجربة التاريخية للحزب) ويتواضعوا بالقول أن ثمة من الأشياء ما فاتهم، وأن الروح الثورية لجيلهم قد شاخت بشكل يتطلب تجديدها أو حقنها بثقافة الحاضر، وبعبارة، يجب على اليسار الماركسي ان يتثور بمعطيات زمانه ويستفيد من ميكانيزمات حاضره بدل الإنزواء في أضرحة الرفاق القدماء وليتهم كانوا بحيوية الرفاق القدماء وإبداعاتهم النضالية.ليتهم يتواضعوا ويقولوا كما قال مواطن تونسي في استطلاع صحفي أنجزته الجزيرة حيث بارك فيه حيوية الشباب وقال بتواضع كبير: أشكر الشباب التونسي، هذا الجيل الجديد الذي فعل ما لم نستطع نحن أن نفعله.
هذا لا يعني أن نزيح هؤلاء، بل يعني ان يتركوا الآخرين يضحون كما ضحوا هم، أن تستفيد منهم الأجيال الجديدة التي تتمتع بحيوية الشباب وفورته بإبداع أشكال نضالية جديدة وليس بتوريث تجاربهم وصدمها بتغير الظروف والعوائق إذ أن لكل جيل ظروفه كما له طريقة مختلفة قي صنع ثورته، أن يزرعوا فيهم روح المغامرة والتضحية كما فعلوا هم أيام زمانهم، أن تتعلم الأجيال الجديدة منهم روح التضحية التي جعلت منهم أبطال، ان تتعلم كيف تصنع زمانها وتصنع تجاربها هي ، أن يستفيدوا هم من تجاربهم السابقة كونها كانت في قوة شبابهم وليس في شيخوختهم، فأغلب المناضلين الذين مازالوا زعماء حتى الآن، نالوا زعامتهم من قوة ودينامية شبابهم، ولما شاخوا شاخت حيويتهم وهي الآن لا تنتج إلا الإحباط وتبريرات اليأس.
إن الثورة التونسية ازاحت اللثام على هؤلاء وعبرت بشكل رائع عن سيرورة درب نضالي جديد، وعن ركب آخر ليس هو ذلك الركب المحبط بالشيخوخة، إنها عبرت ببلاغة عن صراع أجيال، وأظهرت انها تستطيع أن تصنع رجالاتها وأبطالها كما عبرت عن انها لا تقبل بوطأة تركة أجيال خلفت نحبها كما قال ماركس، وإذا لم تنجز هذه الثورة مهمتها التاريخية التي هي قطع تلك العلاقة الكولونيالية التي تربطها بالرأسمالية، فلأنها في لحظة الحسم لم ينوجد بديل سياسي يعبر عنها، والمسؤولية في ذلك كل المسؤولية، تتحملها القوى اليسارية الهرمة التي أسقطت عجزها وشيخوختها على دماء الأحياء، فهل ستستفيذ القوى اليسارية في محيطنا الإقليمي من هذه التجربة وتبدأ عملية تثوير ذاتية وحقن مؤسساتها بدماء المغامرة والتضحية المستندة إلى الثقافة الجديدة، ثقافة الجيل الجديد التواق إلى الحرية والنضال.




ليست هناك تعليقات: