في الحانة وكالعادة عند بيبي لتروس, التقينا وعلى غير عادة على طقس جديد من النقاشات التي تحوم بها الذاكرة, لم يكن احد منا يدرك وثيرة تذارك الأيام, لقد بدا صديد السنوات يأخذ منا, بيبي صاحب المقهى ذو المداعبة السحرية لم تعد ألعابه السحرية مبهرة كما كانت أيام حيويته الفيزيولوجية, حين كانت خفة حركته تنال منا ونقف مبهورين امام خيوطه المزركشة التي يخرجها من فمه ظانين انها تطلع من فوهة معدته , لقد خانته خفة ظله ولم تعد حركاته البهلوانية تخدع أحد, بل بدى يعوض عن شيخوخته بابتسامة عريضة تكشف الأسف عن زمن الزهو ويعترف صراحة بأن جميع حركاته لم تكن سوى لعب مهيأة مسبقة لإضفاء نوع من العجائبية على زبائنه, كانت حانته تشبه إلى حد ما كوخ المرأة العشماء في حكاية الأطفال, مسقف سطحها بالقصب وحيطانها مليئة بالمعلقات الأنتروبولوجية, أدوات قديمة تؤرخ لألميريا مابعد الظفرة الإقتصادية, والفلاحة الصناعية التي حولت تلك البراري الشيحية إلى صفحات اسمنتية تبعث السراب, أدوات قديمة للطبخ, أوتاد كانت تستعمل لربط الحمير او البقر وأشياء تدخل في ميكانيزمات المحراث الخشبي التي تجره البهائم وبعبارة أخرى أدوات تؤرخ لزمن البداوة الاندلسية, فيما عدا هذا كانت هناك بعض الصور الفوتوغرافية التي تضفي على الحانة مسحة الأصالة والمعاصرة ومعلقة شعرية كانت في الحقيقة اروع ما قرأت بلغة سيربانتيس منذ وطات رجلاي هذه الارض الجميلة, قصيدة انتروبولوجية تحكي السلوك اليومي وتعكس بعضا من نمطية التصريف اليومي, في وجه منها, علاقة الحانة بزبائنها, باعتبار مالهم وما عليهم,لكنها في الحقيقة قصيدة تدخل في نطاق الاعيبه السحرية من حيث أن العادة في الميرية , وفي كل الحانات, يقدم المشروب مع وجبة صغيرة من الاكل, فالقصيدة تقول بأن ما يقدمه من مصحوب المشروب هو هدية منه وليس فرضا عليه, بينما هي في الحقيقة عادة رسختها تقاليد رسختها حكمة واحد من الملوك الذين حكموا هذه الإمارة قديما لما يعرف في ألميريا بداب اهلها على الشرب حتى الثمالة, فكان على الملك أن يفرض وجبة مصحوبة لكل نخب فسماها "الطابا" وتعني سدادة أو غطاء وسميت بذلك لأنها كانت توضع فوق الكأس وهي إحالة رمزية لسد رمق الجوع حتى لا يفترسه الخمر , (المغاربة يسمونها القطعة) ثمة أيضا من ينسبها إلى فرانكو لانقاذ جنوده من الثمالة التي باتت تبشر بخصارته في حرب أهلية اختلط فيها الحابل بالنابل, إلا أن هذا الرأي غير مرجح, لأن الحرب كانت مخدرة بتداعيات الهيمنة الفاشية مع صعود النزعة النازية بأوربا, كانت حربا ثقيلة على دماغ المهاجرين المغاربة الذين لم يهضموا بعد وطأة تركة جيل المورو الذي تهيأ لقتال النصارى والكفار في بلاد العم خوصي ناسيا أن فروض الجهاد لا تقام على قسم الطغاة والمستبدين ولو كانوا مسلمين وأنها أيضا لا تقام خارج أرضه. كانت حربا مسيئة, ليس فقط للإسبان, بل أيضا حتى للمهاجرين المغاربة الذين لا يعرفون عن إسبانيا سوى أنها تجيرهم من الشمال وتغرس أوتادها في بعض الصخور المغربية, التي تؤرخ لنزوة الممالك الصليبية, حين تصبح مدينة بكاملها هدية زواج لسلطان زمانه, ليحل فيها طقوس نزواته , ويتبعها بمجد انتصاراته الدونكوشيتية, حيث الممالك في المغرب , وباعتراف سوسيولجيي الفترة الإستعمارية, لم تكن تحكم سوى قبائلها, أو بلغة ابن خلدون , لم تكن تتحكم سوى في مكنون عصبيتها, بينما الأرض, في كليتها, كانت أرض االله, وكانت أرض عابر السبيل, لذلك سميت ب"أمور واكوش" أو مراكش أو قسط الله, بتعبير الأمازيغ, السكان الأصليين لهذه الأرض.
كان بيبي لتروس بارعا في تقديم خدماته, لدرجة ان حانته لاتخلو من زبائن لها مكانتها الإجتماعية في إلخيدو كموظفي المحاكم القضائية المحلية ورجال الشرطة, واعيان المدينة كما كانت حانته مرتعا لعشاق المأكولات المشوية بالمنطقة, وكان أيضا الشخص الذي لا يميز في زبائنه بين المحلي منهم والمهاجر, كان الكل عنده سواسي, في اعتقادي, كان الشخص الوحيد الذي لم أشعر معه في يوم من الأيام بالظفرة الموضوية لسكان إلخيدو الفائقين من سكرة الفقر التاريخي, ليكتشفوا فجاة ان ارضهم معطاء بما لا يدركون وأنهم فقط ضحايا تهور زمان العولمة التي أيقظت بضاعة البلاستيك مستعيدة دورة الرياح الاندلسية بشكل يخالف سكون جبال نيفاضا العالية واسما إياها بنفحة السوق ومتطلبات الإستلاب الجديدة, فالعامل في الخيدو هو المهاجر ودونه هو البرجوازي الصغير, سجين السلفات البنكية, حتى هذه القاعدة الموضوية, لم يفلت منها المهاجرون, فهم عمال في الهجرة, وبرجوازيون في الصورة في عيون أوطانهم, فالمضاربة البنكية وفرت كل مايصبغ حياتهم ببهجة السلفات, شقة وسيارة وفائض قيمة السلف (لعبة اللقف الكلبية أو اللقمة المنعشة للسلفات), مقامرة جائزة مادام عربون هذه المودة هو التفاني في الشغل لضمان هذا الإدخار ولو تطلب الأمر عمرا كاملا من الشغل, لكن وللمرارة القصوى ما أن هضمت هذه المقامرة حتى تهاوت البرصات والمؤسسات المالية معلنة عن فراغ هذه الأوهام الرأسمالية, وبدا أن الشقق قد ضاقت بضيوفها الجدد, كما شكرت الأبناك عن مودتها وأبانت عن انتعاش فائق في اتجاه صناعة القضايا القضائية .
في الأندلس كل شيء جميل حسب القناة الجنوبية, وعلى الرغم من هذه التفاهة التي تقذف بها التلفزة الأندلسية في وجه الشعب من تحت سقف الحانة, تبدو مواضيع الازمة مستساغة إلى حد جعل منها لوحة فائقة السحر, برلمان يتهيأ بوضع مشاريع تفعيل برامج الحكومة المركزية لاحتواء الأزمة, محاربة إنليونزا لخنازير, قصاصات متفرقة هنا وهناك تتضمن حوادث سير, حوادث اغتصاب النساء من طرف أزواجهم وما يتبع ذلك من ضرب وجرح, جرائم قتل واختطاف, سرقات متعددة, فيضانات وأحاديث حول تغير المناخ, احصائيات حول ارتفاع أو هبوط سوق التشغيل, فضائح تبييض أموال, مخدرات وأشياء, أشياء كثيرة لا تحصى, استجوابات تتخلل كل خبر, وصلات إشهارية فائقة التهويل للمنتوجات اثارني منها قنينة بلاستيكية تحتوي على جرعة لبن تخفض دورة الكولسترول في الدم مدعمة بنصائح طبية, هالني أمرها لانني كنت فعلا اخاذا بسحرها ولما اقتنيت دزينة منها, عندما تناولتها, لم تكن سوى جرعة لبن بالسكر, لكن حصرا هذه الكائنات البيروقراطية سجينة الإدارات المدنية لا تميز بين اللبن وجرعات المنتوج, فالحس الفني والذوقي تصنم كاللوحات الجدارية التي تملأ جدارها, كل شيء فيها خضع للمقاييس العلمية والحسابات المالية التي لاتقبل الجدل, جرعة مغلفة بمقاييس كمية في المحتوى إضافة إلى الماركة المنتجة تجعلنا نفرق بين اللبن من البقر واللبن من الجرعة , هالتني أيضا قصاصة من خاين مفادها ان مواطنا قام بوشاية لدى الشرطة المحلية في حق جاره الذي تعمد الضرب المبرح في حق قطته التي زاغت شهيتها هذا الصباح فالتقفت قطعا من السمك وضعتها الزوجة لتهييء وجبة الغذاء فما كان من الزوج ان فاض غضبا بشكل اثار حفيظة الجيران الذين علموا بعد مخابرة صغيرة ان الغضب أنزل على القطة فسارعوا لاستنجاد الشرطة التي لم تتأنى في فتح محضر في القضية, مما يطرح حسب المذيعة إشكالية المعاملة السيئة مع الحيوانات الأليفة على غرار المعاملة ذاتها مع النساء حيث فاقت مظاهراتهن مظاهرات المطرودين من الشغل . استدعت المذيعة خبيرا في القانون الجنائي ليجلي بجليه كما قدمت شهادات حية للشهود من عين المكان مما اثار حفيظة نديمي الذي قهقه في وجهي صائحا :
─ لم نكن نعرف إلى هذا الحد بأهمية القطط في القانون الجنائي في أوربا
─ لماذا؟ هل لانك شعرت بالندم على فعلتك القديمة
ذكرته بفعلته فخر ضاحكا, كان ذلك في يوم من ايام التشابولات والنوالات البلاستيكية في مساكن بعيدة عن صخب المدينة وسط الحمامات البلاستيكية, وكان لم يمض على أحداث إلخيدو سوى أشهر قليلة, وكان ما زال الأهالي في قلقهم العنصري القاتم وكانوا يمنعون تشغيلنا نحن المهاجرين المغاربة, وذات يوم دعانا هذا النديم إلى وجبة غذاء باللحم, قال بانه لا يستسيغ أكل اللحم لوحده بينما الجيران لم يتذوقوه لأسابيع كثيرة, فقبلنا دعوته الحاتمية, ولما اقبلنا على مائدة الأكل تساءل عشيره عن عشيرتهم القطة التي لا تتخلف كعادتها عن المائدة, فرد عليه حاتم مخمنا أن تكون عند الجيران, ثم علمنا فيما بعد أن اللحمة التي تناولناها في تلك الظهيرة كانت لتلك القطة. فانتابتنا موجة من التقزز والقيء مما دعا نديمي إللى القول بأننا نبالغ في الأمر وان المسألة لا تعدو مسألة ثقافية لا أكثر, فالكلاب مثلا تمثل وجبة رائعة للصينيين كما الذئاب والتعاليب والقطط المتوحشة بالنسبة لسكان الأطلس بالمغرب, فأجدادي, يقول نديمي, كانوا في كثير من المرات يتحدثون بشهية عن لحوم الاسود والنمور دون حرج, أضف إلى ذلك وجبات بلحم القنفد المحرم في ثقافات أخرى, كل ذلك على الرغم من الباع الطويل للدين الذي يحرم لحوم اكلة الجيفة, إن الوحوش المتوحشة أحسن بكثير من الثيران التي تصاب بالجنون او الطيور المهددة بالأمراض الحضارية. بعد ذلك , وذات مساء من مساءات الجمعة اجتمع الضيوف ليناقشوا قول الشرع في لحم القطط, هل هو حلال ام حرام؟
قال النديم مبررا:
─ في علمي وإن كنت لا اتذكر المسافات, فإن القطط التي تقطع مسافة ميل او ميلين هي حلال شرعا, وقطتنا تعمل ذلك في اسطياد الأرانب الصغيرة.
قال الضيف الاول:
─ الضرورات تبيح المحظورات ونحن لم نتغذى على بروتين اللحوم الحمراء مدة طويلة
قال الآخر مفتيا:
─ أدعم الرأي الأول فالقطط التي لا تؤكل هي فقط القطط التي تعيش على الرفاه الإنساني وتغتسل بالشامبوان والصابون لأن لحومها تفتقدالطراوة والشهية بسبب من غسيلها هذا
قالها هذا فقهقه الجميع ضجيجا بالضحك .
عند هذا الخبر فقط, علمت ونديمي هذا أننا اذنبنا في حق القطة, وكان أن حثني على كتمان السر حتى لا يتأثر وضعنا كمهاجرين بما تمليه الإصلاحات التي مست مدونة المهاجرين والتي تؤكد على تفحيص سجلهم العدلي في حالة تجديد بطاقة الإقامة حيث بات من الآن ان نعرف على أن قتل القطط واكلها جريمة تنضاف إلى السجل العدلي, وقال ضاحكا:
─ « تصور ان مهاجرا من اكلة لحوم القطط وقع في يد شرطة الهجرة وسالوه من باب الإستفزاز, كما يفعلون دائما,عن وجباته, كان يسأله مثلا:
الشرطي مستفزا:
─ هه,انت لا تعمل حقا؟
المهاجر في تردد:
─ نعم سيدي
─ إذن كيف تدبر عيشك, لا شك انك لص؟
─ لا سيدي, نعتمد على إعانات الصليب الأحمر والجمعيات الخيرية, نتغذى فقط على المصبرات كالحليب والسكر والسمك والقطنيات و.... كل ما تجود به كرامة البابا في الفاتيكان
─ هم! هل انت مسيحي؟
─ لا سيدي انا مسلم
─ أنت لا تاكل لحم الخنزير فكيف تعيش بدون لحم
─ صحيح سيدي, لكن انت تعرف طبعا أن الضرورات تبيح المحظورات في ديننا, وبما ان الخنازير مذكورة في القرآن فثمة بعض الحيوانات التي لم يذكر تحريمها صراحة
─ مثل ماذا؟
─ القطط مثلا
─ إذن فأنتم من اكلة لحوم القطط, هه, انتم إذن سبب الشكاوى التي وردت علينا مؤخرا حول غياب القطط, ياه, ها ها. ايها الشرطي ( الشرطي مناديا صاحب الرقانة), إفتح محضرا لهذا( مشيرا إلى المهاجر) حول المعاملة السيئة للقطط.
─ لا, لا سيدي, إنها قطط تعيش في كنفنا
─ هل جاءت معكم من المغرب؟ هل انتم أيضا مهربوا قطط؟ ها, ها, هذه قضية اخرى...؟؟
─ وهكذا سيفقد اي مهاجر حظه في البقاء في هذه الأرض السعيدة , قالها نديمي ساخرا».
كانت الأزمة الإقتصادية في برامج هذه الشاشة السحرية تجهز كما لوكانت عروسا تقدم في حفلة زفاف, كل شيء رائع, حتى الكوارث الطبيعية والفيضانات لها ملمح يفوق إبداعا كل ما تخيلته قرائح الرومانسيين وتفنن السورياليين, في أحد الروبورتاجات, منزل غارق حتى النخاع في الفيضان, في كل ذلك الهول لم تجد عدسة كاميرا التلفزة إلا صورة لكلب مفجوع من هول الفيضان ينقذه صاحب المنزل في إيماءة توحي بأن الفيضان يستطيع فعل ما شاء إلا أن يلتهم كلبا بريئا يتقن السباحة, ظهر صاحب المنزل مفجوعا في كلبه أو كلبته أكثر مما اصابه في منزله, وقدمته التلفزة كبطل أسطوري انقذ بأعجوبة ضحايا محتملين في حمم بركانية, كان يتحدث إلى مكروفون التلفزة على أنه في غمرة الهالة الفيضانية لم يفكر إلا في كلبه المفجوع, ولم يرى في غرق القرية إلا مأساة كلبته الرشيقة.
آه ثم آه, يا زمن الوصل بالأندلس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق