"الحركة هي كل شيء، أما الهدف النهائي فلا شيء", هذا ما قاله ألأب الروحي للديموقراطية الإشتراكية بألمانيا خاصة وبأوربا عامة. يحلو للكثير ترديد هذه المقولة التي رفعت صاحبها إلى مصاف القديسين, عمليا تحركت الإشتراكية الديموقراطة في أوربا ولم تعمل فقط على تعديل وتشريع الإصلاحات بل مارست الحكم في عدة دول فماذا صنعت؟ من جهة تمخضت كالجبل فصنعت فأرا, صنعت وهما شفافا سمي بصندوق الإنتخابات, لتذر فيه أصوات الناخبين, وماذا بعد؟ في الإنتخابات, الشيء الوحيد الذي يتحقق, في نظام المؤسسات النيولبرالية هو صوت الناس في الصناديق, متأثرا ببلاغة البداهة الخطابية لقادة سياسيين, ثرثرات عارمة تلقفها وسائل الإعلام وتعيدها مذوية في جدار النائمين على جبهات اللامبالات, إنها الحركة غايتها تحفيز الناس بالقبول بهذه اللعبة الشفافة الجميلة, إنها الحركة ترنو إلى إدهاش الجماهير وسط مراسيم الخطابات الجهاشة التي تجتاح الأقاليم أثناء الإنتخابات, تلعب دور الند للأحزاب اليمينية الرأسمالية الفاقدة لأية مصداقية وبعد ذلك تعمل الحكومات الإشتراكية على تحفيز الإقتصاد الرأسمالي برفع نسبة نمو الدخل القومي, النتيجة: زيادة في الأجور موازاة مع صعود الأسعار وزيادة في نسبة الضرائب, في أحسن الأحوال, تكون الخلاصة عند المواطن لعبة تسخين غايتها التأقلم مع الجديد, وطأة الأجور الجديدة في الجيب (الزيادة) مع خفة ذوبانها في السوق, ما أن يعود المرء إلى بيته حتى يجد جيوبه فارغة, لاشيء إذن تغير, ومع ذلك سيجبل الإقتصاديون أن نسبة الدخل القومي قد ارتفعت, ذلك المسحوق الحيوي الذي يغذي روح الإعلاميين العصريين, ليرتفع عندها الحس القومي في وعي الجماهير بمدى نباهة رجال الإعمال, ومدى وطنيتهم وغيرتهم على اقتصاد البلاد, تخرج الطبول مقرعة أن نسبة نمو الإقتصاد الوطني ارتفعت بينما الذي ارتفع صراحة هي نسبة أرباح الرأسماليين, التي ناح بها الإعلاميون على إقاع موال نمو نسبة الدخل القومي, أليس هذا مايمكن أن نسميه قومجة الإقتصاد الرأسمالي, عندما يتحول نمو اقتصاد الرأسماليين إلى نمو الدخل الفردي في وهم الناس؟ فهل انطلت على الجماهير حكمة بيرنشتاين العجوز وألهمت أيضا اشتراكيينا في الدول الديكتاتورية؟ إن نجاح أية حكومة اشتراكية إذن هو رفع رقم في الحساب الإقتصادي وهو كل ما في الحكاية, هذه هي رقصة الإشتراكي الديموقراطي في أوربا الرأسمالية, وهذه هي إحاءات إدوارد برنشتاين: العبث هو كل شيء. أما الهدف فلا شيء.يعتبر الكثير ادوارد برنشتاين الإشتراكي الديموقراطي الوحيد الذي حقق هدفه (1), وهو ما كان صحيحا بالشكل الذي تبدوا فيه ممارسة الإشتراكييين الديموقراطيين كعاهرة ترقص في ملهى الديموقراطيين الحداثيين وتلقي على مسامعهم أغنيتها القديمة, حول الإصلاح والديموقراطية ودولة الحق والقانون. في سياق ذلك بدأت الرساميل تتدفق بالفعل مكتسحة كل الكون محققة ملهمة برنشتاين: "لا يقود التطور الرأسمالي إلى احتضار الرأسمالية", لكن لا أحد صراحة قال لنا ماذا حققته مثلا هذه الإستثمارات الأجنبية في بلد فقير غير نهب ثرواته, وإغراق أسواقه بمنتوجاتها الكاسحة, وتدمير بنياته الإقتصادية المحلية, وخلق جيش من المعطلين؟بالمقابل, تؤدي عمليا في البلاد المصدرة لتلك الإستثمارات أو تلك الرساميل إلى تحقيق الهدف الثاني من سمفونية برنشتاين:" لا تحتد التناقضات الطبقية بل تتضاءل", وطبعا فإن الأرباح المستخلصة من تلك الإستثمارات ستؤدي حتما إلى تخفيف حدة التناقضات الإجتماعية بهذه البلدان, يتحقق ذلك فقط على أساس أن يعزف العمال سمفونته الرائعة:" الحركة العمالية كل شيء" وهي طبعا لا تهدف إلى شيء, تهدف او بالأحرى تتحرك في اتجاه تعزيز الحقوق السياسية والإجتماعية والإقتصادية في البلد ذاته من خلال ممثليهم في الأجهزة النيابية. وهي معزوفة البلدان الرأسمالية جميعا. لكنها تبقى معزوفة فارغة من أية حركة كما بينا سابقا إلا حركة الإنتخابات.الخلاصة: تستلهم جيدا معزوفات إدوارد برنشتاين, حقيقة أن التطور الرأسمالي في بلد رأسمالي اعتمادا على رؤية نظرية التمدد والإنكماش الإقتصادية, تؤدي في حالات كثيرة. إلى الأزمات , في الحالة هذه دفع انكماش الإقتصاد الألماني إلى دخول ألمانيا, في إطار البحث عن مخرج لها, في حرب كارثية في بداية القرن العشرين, بدعم كامل من الوسطيين بزعامة كاوتسكي واليمينيين بزعامة برنشتاين داخل الحزب الإشتراكي الديموقراطي, بدءا بتصفية رموز التيار المعارض داخل نفس الحزب, على رأسهم, المناضلة الكبيرة روزا ليكسامبورغ, وذلك بحثا عن منفذ لتسويق أزمتها واقتسام المستعمرات مع الدول المستعمرة آنذاك.هذه اللعبة في صندوق الساحر برنشتاين أو كاوتسكي الهمت على مايزيد عن قرن كل النقابات العالمية, والأحزاب الإشتراكية في العالم, في البدء ساهم العجوزان على تجنب الإضراب العام في ألمانيا التي تأثرت كثيرا بزلزال روسيا, وقتل استراتيجية الإضراب العام كتغيير ثوري يؤدي إلى سيطرة البرولتاريا, من منطلق استراتيجية التفاوض السياسي لصالح الرهان على الإصلاحات البطيئة التي تأتي عن طريق التشريع البرلماني والنيابي, معتمدا على نظريته التي تبناها في كتابه:" مقدمات الإشتراكية ومهام الإشتراكيين الديموقراطيين", كان من نتائجها الملموسة احتواء العمل النقابي من خلال جدلية النقابي بالحزبي التي تأسست على خلفية ضبط الحركة العمالية من خلال مأسستها داخل الحزب من جهة وداخل الدولة من خلال تمثيليتها في الأجهزة التشريعية, وهو ما أدى تاليا إلى بروز الأجهزة البيروقراطية الملجمة لأي فعل عمالي. تاليا ومنذ تمأسست النقابات, مرورا بالتنازلات المجانية من طرف النقابات من خلال تفويت الإصلاحات القانونية التي مست مدونات الشغل في سبيل تكييف قوانين الشغل وفق متطلبات النيولبرالية, ووفق قوانين العولمة, حتى الآن, كان أهم مايميز عمل الأجهزة البيروقراطية داخل النقابات ومن خلال قاداتها, هو, وبتعبير "رولان بارت": الخطابة لأجل "متعة النص" حيث يستمتع النص في الخطابة بمضمونه, أثناء التجمعات العمالية, يتميز القادة النقابيين بحس بالغ الأهمية في الضرب على وطر هموم الطبقة العاملة بدءا بانتقاد ظروف التشريد وإغلاق المعامل, مرورا بنقد الأوضاع الإجتماعية عامة, وانتهاء بنقد السياسات الحكومية, تنبهر الجماهير العمالية لقوة الخطاب وجرأة القائد في طرح المشاكل, تتأسس عندها كاريزما القائد في اللاوعي, من خلال كاريزما الخطابة , كما أن القائد وحاشيته ينتعشون على إيقاع متعة القول داخل نص الخطابة تماما كما يستمتع النص بخطابه منبهرا بإيقاعات أنساقه, وطبعا سيأتي دور الإعلام متناغما أيضا مع متعة النص كما هو دوره في لعبة الإنتخابات. تلهم اللغة العامل والنقابي والخبير ( المحلل, اعلامي كان, أو اقتصادي أو اجتماعي, بل أحيانا عالم اللسنيات كما يحدث مثلا في المناظرات السياسية في الإنتخابات) إنها, وبتعبير نيتشة, الحقيقة في جسد امرأة.هكذا بشكل عام وثيرة العمل النقابي بأوربا حيث ميثاق السلم الإجتماعي يتأسس على أرضية الديموقراطية النيولبرالية, فماذا يمكن أن يقال عن وثيرته في الدول ذات الأنظمة الشمولية التي تملى عليها التشريعات وفق قوانين العولمة؟ بالتأكيد لا يمكن إطلاقا إقامة مثل هذه المقارنة, من منطلق أن الأجور لم تتحرك مقارنة مع تراتبية صعود أسعار المواد الغذائية التي هي حاليا في مستوى أسعار المواد ذاتها في الدول الأوربية, أو الدول الرأسمالية مع فارق أن كاريزما القيادات النقابية في الجنوب أكثر تأثيرا منها في الشمال, أو قل للدقة وانسجاما مع إمتاع رولان بارت, أن قوة النص لدى أهل الجنوب أكثر منها في النص عند أهل الشمال, مع أن رصيد أهل الجنوب التفاوضي لا ولم يحقق شيئا إن لم أقل بأنه حقق تراجعا مذهلا.
1 هارولد مايرسون كاتب ومحلل سياسي أمريكي في مقال له, تعليقا على نتائج الإنتخابات الأوربية الإخيرة استهل مقاله هذا بالتهليل لأمجاد برشتاين, قائلا بأنه الوحيد الذي حقق أهدافه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق