يفترض مفهوم "الإنتقال الديموقراطي" , في مجتمع ما, أنه عمليا في إطار صيرورة حركية, هذه الحركة تنتقل به من مرحلة معينة إلى أخرى, وبالتالي وفي مراجعة ما أو تقييم سياسي ما, يفترض النظر في هذه الحركية التاريخية أن ترصد, بديهيا, عماذا كانه المجتمع ماقبل الديموقراطية وما صاره في إطارها, وماذا يمكنه أن يكون مستقبلا, بجملة, يحيل مفهوم "الإنتفال الديموقراطي", إلى اننا فعليا دخلنا مرحلة الديموقراطية وحققنا منعطفا تاريخيا يتطلب بديهيا, وعلى اساسياته المتعارف عليها في الدول الليبرالية أن الاحزاب , ومن منطلق رؤيتها السياسية والإيديولوجية, مارست تجربة حكمها السياسي مما يستدعي تقييم تجربتها السياسية واستشراف الآفاق على ضوء نجاحها أو فشلها.
نستشف من هذا المفهوم أن الديموقراطية في المغرب قد حصلت, وما علينا إلا أن نقيم هذه الوضعية على ضوء التجربة التي مارسها الإإتلاف الحكومي سواء في تجربة سيطرة الإتحاد الإشتراكي أو من خلال تجربة حزب الإستقلال, مثل هذا الإنجرار إلى مناقشة تجربة ما, في ضوء "الديموقراطية المغربية" ينم عن عن تغطيس إيديولوجي يجعلنا نعتقد اننا صراحة نعيش انتقالا ديموقراطيا لا غبار فيه, فهل صراحة نحن كذلك؟؟
منطلق هذا السؤال هو فعليا التشكيك في الديموقراطية التي نزعم أننا بصدد الإنتقال بها من طور إلى أخر كما تعنيه نظريا في المجتمعات الغربية استنادا إلى الأسس الفلسفية الكونية التي انبنت عليها. انتقالا يفترض في أساسه الإجتماعي, أن يكون المجتمع المغربي, استنادا إلى مؤسساته المنتخبة قد بدا يتنسم هذا التحول الذي يراد تقييمه.
إذا أخذنا بدستور 96 وبالضبط الفصل 24 والفصل 28, الأول به تتعين الحكومة, والثاني به تتحدد معالم التسيير الحكومي المتضمن في الخطاب الملكي الموجه للأمة والبرلمان,إن أي متطلع في الحدود الدنيا للديموقراطية, وحتى استنادا إلى الخطاب الرسمي لهذه الأحزاب التي"مارست الحكم"فهي قامت وتقوم بما تعمله استنادا إلى تعليمات الملك, فهي عمليا مارست الحكم بوصاية الراشد لها, أي أنها في نظر الحاكم لم تبلغ بعد سن الرشد, وهو ما أعطى انطباعا عاما بلا أهميتها في نظر الجمهور, من منطلق أن شخص الملك هو قوة الفعل سياسيا في المغرب انطلاقا من تحركاته الشخصية (اغلب الفضائح الكبرى التي هزت الرأي العام المغربي فضحها الملك, من منطلق تنزيه نظامه وإعطاء الأنطباع بانه هو المصلح الحقيقي وهو بالفعل, وهو مالا تستطيع الأحزاب المغربية من فضحه خصوصا عندما تتورط كوادر الدولة فيها) إن عزوف الجماهير المغربية عن عدم التصويت في الإنتخابات الأخيرة, يستند في أساسه إلى هذا الدور الرائد للملك في مبادراته الشخصية التي بدت في قضايا منها اكثر تجدرا مما تطرحه الأحزاب اليسارية, في إطار هذه العلاقة من ترسيم حكم الأحزاب في نظام مخزني قاعدة الحكم فيه, ترجع فيه السيادة إلى المؤسسة المخزنية, وفي إطار مبادرات الملك نفسه, من خلال إشرافه على اوراش المشاريع الكبرى, تولد مبادراته هذه نفسها أثرا وهميا مفاده أن فساد الإدارة, وفي وعي الناس, يعود إلى هذه الأحزاب التي حظيت بثقة الناس من خلال الإنتخابات وبثقة الملك. الملك هو المصلح من خلال جولاته الفجائية, يضبط المفسدين الذين حتما ينتمون إلى قطاعات يشرف عليها وزراء حزبيون والنتيجة أن الاحزاب, في وعي الناس لا تصلح للحكم. من هنا فالقول بأن "الإنتقال الديموقرطي" بدا يطفوا على الأفول[1] هو قول يستند من جهة إلى فشل تجربة الأحزاب في الحكم, ومن جهة ثانية, وفي إطار أثره الإيديولوجي, يولد في الوعي وهما آخر بأننا في مرحلة مخاض تطفو على تحول كبير يجب من خلال تقييمه التهيؤ للمرحلة الجديدة.
خلاصة القول يستحيل موضوعيا, من خلال التجربة النيابية للأحزاب, ومن خلال الدستور نفسه الحديث عن ديموقراطية حقيقية اللهم إذا قلنا وتخفيفا من هول هذه الحقيقة أننا في مرحلة ماقبل الديموقراطية مع الإشارة إلى أن أولئك الذين يتحدثون عن أفول هذه المرحلة, (وهو قول يستند إلى تقييم بعض الأحزاب اليسارية إلى تراجعت نتائجها الإنتخابية), قلت على هؤلاء أن يحددوا ملامح هذا الأفول, وهي في نظرنا نراها في دستور يكفل ممارسة حقيقة للسلطة السياسية تحتكم إلى الشعب وهو رهان كفيل بإدخال المغرب منعطفا تاريخيا حقيقيا, أما ماسمي في تجربة التوافق منعطفا هو في حقيققة الأمر, يؤسس مايمكن تسميته بالإنتقال التقنوقراطي, أي اعتماد نظام الحكم في المغرب على تقنوقراطيي الأحزاب بدل تقنوقراطيي الوظيفة العمومية, من هنا فالدعوة إلى نقد شمولي يستند إلى التجربة الحزبية في الحكم في الشروط الراهنة, هو نقد من موقع الفراغ، من حيث أن الأحزاب التي شاركت في تجربة التوافق، مارست تجربة الحكم من خلال تقيدها بتوجيهات الخطاب الملكي المتضمن في الفصل 28 اعلاه الذي يحدد معالم السياسة التي يجب أن تتبعها الحكومة وهو ما يضرب عرض الحائط برنامجها الحزبي, وبالتالي ليس ثمة ما يدعوها للنقد إلا إذا كان هذا النقد يحوم إلى تبني استراتيجية جديدة تتوخى السيادة في الممارسة السياسية.
إضافة إلى ذلك وعلى عكس مفهوم "الإنتقال الديوقراطي" يكتسي مفهوم الإنتقال إلى الديموقراطية بـتاكيد هذه ال"إلى", وعيا مقاربا لما يقع بالمغرب انطلاقا من رؤية تفاؤلية تتوخى التطلع إلى قفزة نوعية بمغرب ما قبل الديموقراطية إلى مغرب الديموقراطية, وهذه الرؤيا التفاؤلية تقتضي بدورها أن تتأسس, على معطيات تعطي هذا الإحتمال في التحول انطلاقا من معطيات الحاضر, وهو ما يبدو مستبعدا انطلاقا من عدة معطيات:
التشبث الأعمى للأحزاب اليسارية بهذا الفهم الخاطيء لمفهوم "الإنتقال الديموقراطي" من خلال أنها تولد الوهم باننا فعليا نعيش مصارا ديموقراطيا وباالتالي تقيم صيرورتها السياسية بناء على هذا الوهم من خلال النقد التبريري الذي يستند إلى المعطيات المتخلفة في المجتمع كالتباكي بالأمية العمياء والنمو الديموغرافي المتزايد والفقر وبطؤ التنمية وما إلى ذلك, كل هذا يستند في حقيقة الامر إلى خطابها التقنوقراطي المترفع على وعي الناس, وهذا يستند في اساسه إلى بنية الاحزاب ذاتها. فارتكازها على ما تسميه استراتيجية التوافق في إطار استمرار دستور 96 يجعلها بعيدة على أن تمارس النقد الشمولي الذي تبغيه, وبالتالي فإن إلحاحها على هذا النقد ليس في حقيقة الأمر سوى إعادة طبخ مايبدوا في وهمها أنه في مرحلة الأفول
البنية السلالية للأحزاب, والتي تعكس الوعي الحقيقي للممارسة الديموقراطية, داخلها, بحيث أن أغلب الأحزاب المغربية بما فيها أحزاب اليسار الديموقراطي, لم تتغير قياداتها على الرغم من أنها تقيم مؤتمراتها الدورية سواء الإقليمية والمحلية أو الوطنية, إلا أنها تفرز دائما نفس القيادات, وعلى الرغم من أنها تقوم بتجديد بعض عناصرها فهي غالبا تنتهي موغلة بالموالات, وهي أيضا غالبا ماتعمل الأحزاب ذلك, لإعطاء الإنطباع الشكلي للتغير الذي تعرفه, وهو ما يقتل فيها روح التجديد وروح المبادرة من خلال تعليب هذه العناصر الجديدة في سياق الوعي السلالي للحزب, في حالات كثيرة أدى تصدع هذا الوعي إلى انشقاقات هائلة ادت إلى ولادة أحزاب جديدة بنفس العيار السلالي, وهو انشقاق رأسي يعكس حدة الصراع السياسي حول القيادة الحزبية ويعكس تاليا, بأثر ما أيضا, أزمة الديموقراطية داخل الأحزاب وهو مايزكي الإحباط في التعويل على الممارسة الحزبية. ثمة أيضا مسألة أخرى, ألا يشكل استمرار القيادات التاريخية للأحزاب إجحافا حقيقيا للأجيال الجديدة التواقة إلى التغيير من خلال اختزال مواقفها السياسية في هذا المستوى من التعليب, بحيث تصبح الأحزاب موغلة بوطأة تركة الأجيال القديمة, حسب تعبير ماركس؟ إن المدخل الحقيقي لتأسيس الديموقراطية في المغرب يبدأ بدمقرطة الحياة السياسية داخل الأحزاب السياسية نفسها, ديموقراطية مؤسسة على إعطاء الأجيال الجديدة حقها المشروع في ممارسة الصراع السياسسي, حقها المشروع في ممارسة الخطأ كما حقها المشروع أيضا في ممارسة الصواب, بمعنى أن تعيش تجربتها السياسية بدون خلفية التوجيه المحافظة داخل الأحزاب ذاتها
اللغة الحزبية, إن أغلب الأحزاب لاتدخل هم اللغة في حساباتها, باعتبارها لغة الناس التي بها يتسوقون شؤونهم, إن اللغة العربية الفصحى لا يفهما عامة الناس وهي عند القادة السياسيين اللغة المفضلة في التجمعات العامة والجماهيرية (تبدوا النقابات أكثر قربا لغويا من الجماهير), وبالتالي فاللغة المغربية الدارجة هي لغة الحضر بالفهم الخلدوني, فإذا كان عامة الناس لا يتكلمون الفصحى العربية فإن جزءا كبيرا من الجماهير لا تتقن حتى اللغة المغربية الدارجة وهو مايعكس انفصام بنية التلاقي والتثاقف (تبدو جيدا, في هذا الصدد, صورة شخصية المناضل الكبير الشهيد المهدي بن بركة خير نموذج, فهو على الرغم من هذا الرصيد الكبير الذي تناول شخصيته كتابة وقولا, ورغم رصيده النضالي التاريخي الكبير هو عند عامة الناس, خاصة عند الأجيال التي أتت بعده, هو صاحب قسمة رياضية مشهورة تتناول توزيع أرباح الفوسفاط, بمعنى أنه كان عالم رياضيات أكثر منه علما سياسيا). إن احترام لغة الجماهير يحفز الناس على مناقشة المضامين السياسية والإيديولوج والإقتصادية والإجتماعية, أكثر مما يجعله يقف منها موقف المتفرج, من منطلق كونها شأن السياسيين (علماء السياسة بمقاس علم الفقه حيث الشأن الديني لا يمكن أن يخوض فيه إلا علماء الفقه ممن يتقن العربية). وهنا أيضا يمكن الإشارة إلى الإجحاف التاريخي في حق السكان الأمازيغ الذين استبعدوا من الممارسة السياسية والتعبير عن حقوقهم الثقافية والمدنية والسياسية إضافة إلى التهميش الممنهج على جميع المستويات . وهو ما بلورته فضيحة اتفاقية إكسليبن التاريخية حيث تتحمل الأحزاب الوطنية قسما كبيرا من المسؤولية يتطلب فيها الموقف تقديم اعتذار رسمي لهؤلاء السكان كواجب أخلاقي على غرار ما تفعله الأحزاب الديموقراطية في الغرب. مثل هذه الجرأة السياسية لا يمكن أن تصدر إلا من دماء متجددة داخل هذه الأحزاب, دماء تملك ملكة النقد الحقيقي.
إن استحضار نقد هذه المعطيات بالإضافة إلى دستور يضمن السيادة السياسية هو ما يفتح باب التفاؤل لدخول المغرب منعطفا تاريخيا جديدا يسمح ببناء مغرب جديد يتحكم في موارده الطبيعية والبشرية ويسمح بالتنمية المستديمة والمبدعة أساسها اللامركزية الحقيقية حيث تملك المجالس المحلية والإقليمية والجهوية السلطة الكاملة في تسيير شؤونها من منطلق احتكامها إلى سكانها مع ما يترافق ذلك مع تشريع دولة القانون والمحاسبة.
عذري مازغ في 2009-12-17
[1] نحو مراجعة نقدية شاملة ورقة تمهيدية للمناقشة الجماعية الموقع : http://www.usfp.eu/taleb/index.php
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق