1 تييرا دي ألميريا
كان ينتزعني هذا الإحباط القاتم، يقيم على صدري كأشلاء المرايا ويغرقني في الفراغ الدامس ،وحدي من ترك الملامة والقى بها بعيدا في الصحاري القاحلة، ودعت شرف القبيلة عندما لم تكن ما كانت وانتسبت إلى شرف الداروينية لعلها تعتقني، لم ار فيها انتهاكا يتستر خلف التلاوين لتعلن حروبا فاشية،، رأيت فيها التاريخ مشتركا، والحضارة قياسا، وكانت فيها السيطرة انتهاكا لمشيئة الخلق.
2
عندما يئست من الحصول على الشغل في ألميريا، بدت لي المنطقة فراغا آخر تعدوا فيه البطالة مقنعة بلعنة الجنوب،هستيريا البحث عن أصدقاء الوساطة والتواضع اللامبرر لإعطاء الآخرين صك الامان في استغلالك كي تنخرط في لعبة الإندماج مع قبائل المهاجرين، فإذا ما دفعك كبرياؤك إلى عدم الإنصياع، فاتتك فرص الشغل، لذلك كانت تنتابني أفكار سديمة: في الجنوب كانت البطالة مشتعلة في البرية كالهشيم ولم أتصور يوما أن لها قدرة التسلل عبر المياه إلى الشمال لتستقر بالميريا وتنتشر بين مداشر الاحواض البلاستيكية. كانت الميريا بتعدد قبائلها تكتنز نمطية الترحال، في الصباح نتوجه إلى أحد المواقف(الموقف بالعامية المغربية*) نرسو فيه كالأعواد التي حطها السيل، نحصي عدد السيارات التي مرت ذلك الصباح، وعندما تتوقف إحداها، ننتفض إليها كالكلاب الجائعة التي خرجت من البرية، تتأملنا عيونهم كما لو كنا في رحبة الغنم، يختارون منا مايلبس شغلهم ويتركون البقية تتيبس كالقشور فوق صمك الصخرة، مراة عديدة يلقفونك بالإشارة فتنقض إليهم كوحش كاسر يشمر ساعديه لافتراس الشغل كيما يفترس الفراغ الذي ينخره، حين تقترب إليهم ساعيا يخر منك سخرا:
مورو دي ميردا**
أصير ذلك الشيء لوجاهتهه ولأنني غامرت في البحر لكي اقف بين يديه.
أتلقفها مرة كالسديم، أحني رأسي طاعة للضياع، واعلن أن لاشيء تغير حتى الآن
وفي الظهيرة نعود إلى مخابئنا الصغيرة لنعوض عن حلم الصباح الجميل
في المساء ، للمساءات طعم آخر بطقوس أهازيج إفريقيا ولحن التمدن الأوربي ،تختلط الثقافات في البراري بعيدا عن اضواء المدينة الهادئة التي تحضنها جبال نيفاضا كطفل صغير غارق في النوم، هنا في الصحراء اليافعة بدوالي البلاستيك، نعيش حياة أخرى بعيدا عن الزمن الذي يحتضن القارة، لنا زمن آخر، يحسدنا عليه الآخرون، لنا مجتمع آخر: أصدقاء متضامنون في اقتسام لقمة العيش ، انتهازيون خارج سلطة القانون ، مجتمع ذكوري بامتياز يوحي بنبوءة أخرى من حقبة اللواط :
ــ المغاربة ينامون جماعة في غرفة واحدة، واحيانا يقتسمون نفس السرير،،قالها أندري المحبط في عشقه عندما خطفت محبوبته من بين يديه، كان يعوض بها عن نفسه في مصيبته. كان يدرك أننا في الهم سواء لكنه كان يهرب ، يهرب بعيدا حين يكون النوم الجماعي لنا عزاء له وهو الذي يتناول أقراص التخفيف من هول الصدمة، ليس فقط صدمة الفقدان لمحبوبته، بل أيضا صدمة لاعترافه الجونجاكروسي لنا في مصيبته عندما جعله الباطرون، تخفيفا لأعباء الإفتقاد، مسؤولا عنا في العمل ، غرره الباطرون بهذا الإمتياز، عوضه بنا عن الحقل الذي فيه ابتدأ عمله وفقد محبوبته فتخيل له أنه أقوى المصارعين في العمل بينما كان عبد النبي الشوال (الحصاد) هو الأقوى ، وكان قد هزمه في كثير من المراة أثناء عملية الغرس أو الجني لافرق، وجعل منه
*المكان الذي يقصده العمال في الصباح في انتظار فرصة عمل
**مورو هو اللقب الذي كان ينعت به المغاربة الذين شاركو في الحرب الأهلية إلى جانب فرانكو
أضحوكة المصارعين ، لكنه كان يجد لنفسه نوعا آخر من العزاء حين يحملونه أعمال الصيانة التي تتطلب نوعا من المعرفة التكنولوجية ليتورط مرة أخرى في مصارعة أخرى مع محمد العالم الفيزيائي الذي رفض العودة إلى جامعة إفريقية كي يعيش غربة متمدنة عوض الغربة في أدغال بينين الإفريقية. كانت مشكلة أندري أنه لم يستطع
التخلص من أزمته العاطفية طوال تواجده بألميريا، وكانت تصحبة أينما حل وارتحل إلى حد ضخمت كثيرا من أناه وجعلت منه شخصا منبوذا من الجميع، كان عدائيا مع ألجميع ذكورا وإناثا،أحيانا كان يساعد أبناء بلاده بإقناع الباطرون ببقائهم في العمل دون استبدالهم، لكن سرعان مايجعل منهم خصوما أثناء العمل بكثرة ضغوطاته عليهم، كانت حسناته السيئة مع أهله تعويضا له عن الإنهيار الذي أصابه نتيجة عواطفه،كان إحسانه مظهرا من مظاهر إبراز الأهمية التي يمثلها لدى أهله إلا انه سرعان مايهدمها بنفسه عند إلحاحاته اللامبررة في إظهارها في الشغل كأن يأتي وراء أحدهم في الخط ويعيده إلى بداية الخط كي يبدأه من جديد بدعوى أنه لم يحسن العمل فيه، تنبيهه الممل والمتكرر إلى العمال حتى لايتركوا ناقصة كان جعل نفسه مملا من الجميع، كان الباطرون هو كل حياته، وعليه أن يكسب رضاه بكل الوسائل بما فيها إبلاغه بالوشايات، كان يلتقط بعض الفواكه التي سقطت لذاتها وينبههم على أنهم يتعمدون الخسارة للشركة التي ضحت وتضحي في سبيل إبقائهم أحياء في الشغل وان ما يتقاضوه أكثر بكثير من جسامة ما يقدمونه في العمل، وكان لكثرة خصوماته مع العمال يورط الباطرون في نزاعات الشغل التي هو في غنى عنها وبقي يراكم تناقضاته حتى انفجر ذات يوم في أحد صراعاته مع محمد الفيزيائي عندما كان يعملاني معا في أعمال الصيانة فوق سطح البندر* حيث بدا آمرا أكثر منه عاملا رغم أن الباطرون أوصى بتعاونهما في ذلك العمل حيث تعمد محمد بذكائه المفطن بالمكر إلى إسقاطه في أزمته النفسية وإنهاء عمله دون رجعة
ــ كمل هذا العمل الذي أنجزه ودع ذلك حتى أعود، قالها أندري بحنكته الآمرة
ــ يجب أن أكمل عملي أولا،رد عليه محمد
ــ ماذا تظن نفسك؟ هل أنت الآمر هنا
ــ لست كذلك ولكن هذه هي توصية الباطرون
ــ الباطرون ليس هنا وانا من أمثله
ــ أتدري ماذا ينقصك؟أتأسف كثيرا لذلك،أعرف أنك تملك مؤخرة انثوية وتحتاج لمن ينخرها لك لذلك لم تكف تنبشني منذ البداية دون توقف والآن أقولها لك صراحة: أتأسف كثيرا لوضعك، وأنا لا أضاجع الذكور وإلا أدخلت عليك نوعا من السعادة في هذا الصباح، متأسف أنا لست لواطيا.
قالها محمد بنوع من التهكم المفعم بالمكر والخداع، فما كان من أندري أن هب نازلا يبحث عن الباطرون ولما وجده خيره بين اثنين:أن يطرد محمد وصديقيه الآخرين أو أن يخرج هو
ــ قل لي أولا ماذا وقع بينكما.
أخبره بما قاله محمد وخر الباطرون ضاحكا مستكشفا بعينه مؤخرة أندري البارزة، وخبث محمد الذي يوري أهميته للبناء الجسدي عند أندري ذو البنية المنتفخة نتيجة لتناوله العقاقير التي منحها له طبيبه النفسي لتهدئة أوجاعه ولم يجد الباطرون مايرد به غضبه سوى قوله أنه لايمكن أن يطرد عاملا لمجرد كلام، انتفض أندري إلى الكيس الذي يضع فيه زاده وذهب دون رجعة، نام في بيته يومين متتاليين بعدها هاتف الباطرون أن يدعه يعمل في إحدى الضيعات الأخريات حيث بعثه إلى الضيعة التي فيها فقد محبوبته حيث أرجعته الذاكرة إلى بداية اغتصاب عواطفه ليتركها هي الأخرى دون رجعة لتتوارى أخباره إلى أن وجده ذات يوم سعيد يعمل في البناء بإحدى ضواحي إلخيدو حيث كان أندري من ناداه قائلا لأصدقائه:
ــ كنت مسؤولا عن هؤلاء المغاربة عند البيبي مورينو، ثم توجه إلى سعيد،أليس كذلك؟
ــ نعم كنت واشيا وليس مسؤولا، قالها سعيد ساخرا منه، بينما انسلت من رفاقه ضحكة صاخبة، ثم توجه سعيد بكلامه إلى الآخرين:
ــ تعرفون جيدا أن الباطرون يصطحب من عماله الوشاة منهم ، أسألوه كم كان يجني من ذلك خلافا لنا، كنا نتلقى الأجر ذاته الذي يتلقاه هو وكان هو يهضم من الوقت أكثر منا لأنه كان عليه دائما أن يضع تقاريره
ــ أعرف أنك ستقول ذلك،لأن الغيرة أعمتك كباقي الآخرين، رد عليه أندري
ــ لا ليس الأمر كذلك، أسألك مرة أخرى هل كنت تتلقى أجرا كما يتلقاه "أنطونيو" المسؤول عن مجموعة النساء، قطعا لا، أكثر من ذلك كانت" أنا" تتلقى أكثر منا جميعا وهي امرأة
ــ من كانت أنا
ــ أنا الإسبانية التي كانت تمضي ساعات طويلة في المرحاض دون أن يسألها أحد
ــ كيف تقارن ذلك؟ هي قريبة الباطرون
ــ نعم هي قريبته وأنت وشايته
احمر وجه أندري مرة أخرى وكاد ينفجر لولا أنه تدارك الأمر، تحمل الصدمة معاتبا سعيد وأصدقاؤه بأنهم يقولون ذلك فقط لأنهم يحسدونه.
لتعويضه عن نفسه،أقحم نفسه في عشق مواطنته برونيا التي كانت تكبره سنا بعقدين على الأقل كانت طريقة انتزاعها من مغربي كان يعاشرها أشبه بكثير بالطريقة التي انتزعت منه محبوبته، كانت كلما خرجت لتواعد المغربي ، يبقى أندري يكتوي بحر الغيرة طوال الليل، وكان لايستطيع أن يبوح لها بذلك، لكنها كلما عادت في الصباح استقبلها هو بالكلام النابي والفاحش ناعتا إياها بالمومس والقحبة وابنة الخراء وكل ما إلى ذلك من الكلام الحاط من كرامتها وكانت كلما هدأ الجو بينهما تدخل إلى بيته وتصفح عما بدا منه وتسأله ايضا عن سبب غيرته وكان هو دائما يجيبها بأنه فقط غيور على بنات جلدته كما أنه لايتحمل أن تخرج مع المغاربة الوسخين والمعفونين والأميين ايضا ويفضل أن تخرج مع الآخرين ، وغالبا ما تكون إجابته غير مقنعة بالنسبة لها ، تخبره بأن "حسن" ليس ما يظنه هو، ثم إن إمكانياته المادية تسمح له بأن يساعدها في إعالة ابنيها كما أنه يناسبها كثيرا ، يرد عليها هو بأنه يمكن أن يساعدها هو الآخر
ــ لكنني لايمكنني أن أرتبط بك فأنا أكبرك كثيرا وأنت في مقتبل العمر وذو ملامح جميلة وتتمناك أية فتاة أخرى، لماذا لاتخرج عن عزلتك وتبحث عما يناسبك؟ قالتها "برونيا" بنوع من التشمر فرد عليها بأنه يحبها
صخبت منه ثم خرجت تاركة إياه مرددة بأن المشكلة ليست مشكلتها بل مشكلته،أخذت هاتفها النقال لتنادي حسن كي يخرجها من هذا الجو الممأزق وكي تتنفس بعض الهواء.
جاء "حسن" بسيارته الميرسيديس وطار بها إلى وجهة مجهولة، أما اندري فبدأ يجذب في البيت ويصرخ بشكل هستيري ،يذهب يمينا ويسارا، يتساقط على وجهه كمن أصيب بالصرع، يدخن سيجاراته بشكل جنوني، يطفؤها، يشعلها، ثم يعاود الركض، يشهق بالبكاء إلى أن سقط أخيرا فاقدا وعيه، حيث هاتفت صديقة برونيا إليها بأن تأتي سريعا مخبرة إياها بأن أندري أغمي عليه وانه كان في حالة يرثى لها منذ خروجها.
عادت برونيا سريعا ودخلت إليه ترشه بالعطر إلى ان استفاق، حطت رأسه على صدرها فتمسكن هو في حضنها كطفل يتيم يفتقد إلى دفء الحنان وبقيا على هذه الحالة إلى أن همت هي بالذهاب إلى بيتها لتنام، سألها الجيران عما إذا كانت حالته مستقرة، فأجابت إيجابا فهب الجميع إلى أفرشتهم.
في الصباح ذهب الجميع كالعادة إلى العمل، وبدا أندري صامتا لاينطق بشفة، انزوى عن القطيع الذي يرعاه مختبئا بين الخطوط إلى أن همت به برونيا، دخلت إلى خطه كي تسأله عن أحواله حيث أخبرها بأن حالته بدأت تتحسن،اعتذر لها عما صدر منه كما اخبرها بأن كل ما يريده منها هو أن تعتبره كواحد من ابنائها واقترح عليها الرحيل من الكورتيخو*إلى منزل بضواحي لاس نورياس** حيث تآلفا هناك.
كان الكورتيخو الذي وفره صاحب الشركة كسكن للعمال يتألف من أربعة غرف، إضافة إلى حمام واحد ومطبخ وقاعة للأكل تتوسطها مائدة مستطيلة، كان محمد الملقب بالشلح يحتل غرفتين واحدة له وزوجته والأخرى لابنته الوحيدة ذات العشرين ربيعا أما الغرفتين المتبقيتين فكانت واحدة بعد رحيل برونيا وأندري، يقطنها ثلاثة مغاربة والأخرى تقطنها مهاجرتان من أكرانيا أما باقي المغاربة فكانوا يقطنون العربة (المودولو) التي وضعها الصليب الأحمر بالتعاون مع مكتب الحماية المدنية*** أيام أحداث إليخيدو كحل أولي لتسكين المهاجرين وكانت تتوفر على ثمانية أسرة متدرجة بعضعا على بعض، مجهزة باالتيار الكهربائي والماء اللذان وفرهما الباطرون في أفق أن تتحول العربة إلى ملكيته بعد مرور ثلاث سنوات ، وكان الباطرون يعتبر العمال الذين يحتلونها مجرد جيش احتياطي للعمل عنده كلما احتاجهم في عملية الغرس أو عند عملية التخريف، أما العمال الذين تحولوا منها إلى الكورتيخو فهم عمال رسميون في الشركة، وكانت عملية الإنتقال بمثابة تباشير بالعمل القار بالنسبة للمحظوظ بهذا الإنتقال
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق