أولغا امرأة من أوربا الشرقية، هاجرت إلى إسبانيا منذ أربع سنوات،تفضل أن تعيش في إسبانيا على أن تعود إلى بلدها الذي وولدت فيه وترعرعت حتى بلغت عشريتها الخامسة والداها كانا من الجيل السطاليني الذي اقحم بأوكرانيا وكانا حتى عشية انهيار الإتحاد السوفياتي يعيشان أزهى ايام المجد البيروقراطي،فهما موظفان إداريان ينتميان إلى التيكنوقراط ويعيشان بأكرانيا كالنبلاء الإستعماريين، كانت أولغا تقول دائما بأنها،في كل حياتها بأوكرانيا، لم تشعر يوما بأنها ابنة هذا البلد الذي ترعرعت ووولدت فيه، وكانت تشعر كما لو أنها ضحية : كونها كانت روسية تعيش في اوكرانيا او هي أوكرانية ذات اصول روسية، لم تكن تستصيغ وضعها في البلدين، لذلك فهي ترفض أن تعود الآن إلى أي من الموطنين، كانت دوما تشعر بالغربة اتجاههما، لذلك فهي ترفض حاليا ان تعود إلى أي منهما وتفضل أن تعيش في بلاد العم خوسي رغم غلاوة الثمن على أن تعود إليهما ، أما ابنتها اليافعة ذات الخمسة عشر ربيعا، والتي تدرس الآن بالمدارس الإسبانية في الجزيرة الخضراء، فوالدتها أولغا لم تدعها تذهب ولو لمرة واحدة إلى الوطن لزيارة والدها.
أولغا كباقي الذين ولدوا في الأوساط التقنوقراطية تتقن جميع اللغات الحية، فهي لم تلقى أية صعوبة في الإندماج في الوسط الإجتماعي الأندلسي، فهي منذ نزولها بأرض ألميريا حصلت على العمل كنادلة بأحد المقاهي، كما ان لونها الأشقر يجعل منها شهية الزبناء الذين مالبثوا يتنافسون حول من فيهم سيحظى بمعاشرتها، ولأن المنافسة شرسة فهي تتضايق كثيرا من تلميحاتهم كما أنها ضاقت درعا بالعروض التي تتدفق عليها ، فهناك من يعرض عليها العمل في حانته وآخر في مصنعه وآخرون يذوبون في مساعدتها في أي شيء . مع كل هذه العروض، فهي لا تبالي، ما يهمها هو فقط الإعتناء بابنتها وتوفير الظروف الجيدة لها لتحصل على تعليم جيد، وعلى مستوى دراسي مهم حتى لاتكون عرضة للعمل الشقي في المزارع البلاستيكية بإلخيدو أو تمتهن إحدى المهن الشرقية المنتشرة في كل المدينة أوأن تكون عرضة لسوق النخاسة كباقي المهاجرين ، وهي القناعة الوحيدة التي ورثتها من عهدة السوفييت ومن جيل الثورة الذي انتج عمالقة الفكر السياسي والفلسفي وفن الخطابة الإيديولوجية، كانت أولغا صموتة بطبعها، فهي لاتتكلم إلا عند الضرورة، رزينة كل الرزانة، تتذكر دائما زمن الرغد في العهد السوفياتي في عهد بريجنيف حيث كان كل شيء متوفرا بدء بالعمل وانتهاء بالسكن برغم هزالة الأجور :
ـــ نعم كانت الأجور هزيلة ولكن لم نكن نثقل كاهلنا بالبحث عن العمل أوالسكن أو عناء التقشف والتوفير في زمنه، علقت أولغا مضيفة : كانت الدولة تعفينا من هذا الضياع
ـــ أنت الآن بخير هنا أيضا، لديك عمل ومسكن، رد عليها نيكولا
ـــ صحيح، لكن لايمكنني أن أستريح من العمل، فالأجور، صحيح أنها مرتفعة مقارنة مع البلد إلا أن المصاريف أيضا مرتفعة وإذا ماتغيبت يوما واحدا عن العمل لقضاء حاجتي ، علي إعادة تدبير أجرتي الشهرية آخذا بالإعتبار ذلك الغياب... صمتت قليلا ثم استرسلت :
ـــ وهل هذا العمل عمل؟ من السابعة صباحا حتى السابعة مساء واتلقى فقط اجر ثماني ساعات،ساعتان إضافيتان مقابل ماذا؟ ضريبة ارتحالي؟ .. وهذا السكن هل تعرف كم أجرته؟ أنا هنا لا أتنفس، هل تفهمني؟
نيكولا هذا واحد ممن داخوا في فضاء الحرية الأوربية، كل شيء في إليخدو يبتسم في وجهه لافتات الترحيب المنتشرة في كل مداخل المدينة لافتات الإشهار المنتشرة في كل المداشر والسفوحات المحادية للطرقات الرئيسية مدن وقرى تسبح في بحر من البلاستيك،التي تشبه إلى حد ما صفائح الطاقة الشمسية، العمل هنا وهناك، عليك فقط أن تستعرضي عضلاتك كل صباح في مواقف النخاسة ، أو أسواق العمل اللبرالية الجديدة، ومن ثمة البحث عن مشغل يرضى عنك بالبقاء في العمل معه إلى أن ينتهي الموسم. نيكولا من المحظوظين برضى المشغل، فهو يعمل عند رفائيل طيلة اليوم وفي المساء يسطحبه رفائيل إلى الحانة التي تعمل بها أولغا حيث تعارفا هناك،الحانة التي يؤمها الزبائن من طينة رفائيل أو من طينة أولغا نفسها ، هي حانة فقط تؤمها الباطرونا و العاملات أو العمال الشرقيون ممن يعرفون أدبيات شرب الخمور أما المغاربة والأفارقة فهم يفتقدون هذه الخصلة الصوفية بطعم المجون وأغلبهم لايعرف عن الأندلس إلا أنها تجورهم من الشمال برغم أن المغاربة استملحوا كثيرا من أغاني الملحون والطرب الغرناطي فهم لم يتذوقوا بعد من سحر صوفيته كأهل فاس من الطبقات الأرستقراطية ذات الحنين إلى فضاءات الوادي الكبيربإشبيلية أو قصور غرناطة الشاعرية ، أما هنود أمريكا اللاتينية فقد سقطت عليهم لعنة القامات القصيرة التي لا تتناسب مع امتداد نبتة الطماطم إلى الأسلاك الفوقية في الحمامات البلاستيكية ، هذا مايقوله عادة المهاجرون الافارقةالذين يفتخرون ببنياتهم الجسمانية التي تتحمل ظروف العمل في هذه الحمامات التي خلقت ضرورات أخرى للتعايش،فهي لا ترحب بقصيري القامات لذلك، لم يشكل طردهم من المدينة أزمة عنف عنصري كما وقع مثلا للمغاربة في مطلع هذه الألفية حيث اصبحوا متخلفين وناكرين لجميل أولياء عملهم الذين شغلوهم دون مراعات وضعهم القانوني، كما سمحوا لهم بالسكن جنبا إلى جنب مقرات العمل وفي كثير من الأحيان داخل مستودعات تخزين موادهم التي يعالجون بها منتوجاتهم الفلاحية، من اسمدة كيميائية وآلات توزيع المياه وما إلى ذلك
كان المغاربة أول من لاءم ظروف الشغل بالسكن البدائي مستفيدين من تجربة الترحال عند آباءهم فابتدعوا بناء النوالات اعتمادا على نمط الحمامات وبالوسائل ذاتها التي تستعملها، أي انهم استعملوا إطارات حمل البضائع في هيكل النوالة وأحاطو الهيكل بالبلاستيك كما صنعوا من تلك الإطارات أسرة للنوم وادراج المطبخ مستعينين بالصناديق التي كيفوها لتخزين مواد الإستهلاك وكذا استعمالها كموائد للأكل. إضافة إلى استعمال شباك التهوئة كنوافذ. لذلك وفي كثير من المرات تبدو ثقافتهم جزءا من هذه النمطية التي يعكسها جود الاولياء اعترافا لهم بالجميل.
نيكولا مثله مثل المهاجرين الآخرين لا ينفك يحكي لنا كل ما يقوله مشغله طوال يوم العمل ، فهو يظهر لنا دائما كيف كان رفائيل ودودا به من خلال التحدث معه عن اخبار الساعة أو كل مايجري في برصة البضاعة التي ينتجها، إلى حد لايمكن أن يصدق أي خبر من أصدقائه إن لم يعلم به رفائيل، فالأصدقاء الذين انخرط معهم في أول اندماج حضاري له في إسبانيا، هم غرباء عن اللغة وهم بالتأكيد لن يمضغوا الخبر مثلما سيمضغه رفائيل ،الذي هو أسير كل مايقوله مذياعه الصباحي المحلي الذي يذكرني بالإذاعة المغربية عندما كانت تنقل إلينا خطوات إدريس البصري في كل أوان كما لو كان وحده عبقرية المغرب الجديد، لذلك كان حديث نيكولا مع الأصدقاء يتم انطلاقا مما قاله "الخيفي" في حظيرة الشغل ، أكثر من ذلك ، حتى الحديث عن العلاقات الخاصة لامعنى لها إن لم ينسجها موصومة ببصمات رفائيل لكي يعطيها مصداقية أكثر. ولما لا والخيفي هو مصدر عيشه؟
كانت لنيكولا صديقة روسية اسمها نطاتشا، وكانت تقول لي دائما بأن اسمها هو فاطمة عند العرب، وأنا، كانت تعجبني مقارنتها هذه الظريفة لأنها تذكرني بشيكسبير، طبعا ليس في شخوصاته المسرحية بل في مقارنة أخرى تذكرني بالشيخ زبير كما جاء في إحدى قصاصات وكالات الأنباء الليبية التي اجتهدت كثيرا في تاصيل هذه الشخصية التاريخية.
نطاتشا ممرضة روسية في مقتبل العمر، كانت جميلة إلى حد كبير، وجاءت إلى إسبانيا من منطلق استكشافها لبلاد العم خوسي مستغلة حصولها على إجازة طويلة الأمد ، أرادت من خلالها أن تجرب العمل بإسبانيا عسى يروقها الأمر لاستبدال الديموقراطية المبتذلة ببلادها بديموقراطية الحزبين المتبادلين حول السلطة في بلاد الغرب في انتظار اكتشاف الجمهورية الجديدة..
كنت لا أروق لنطاتشا كثيرا فأنا أملك عندها تلك الصفات التي يحملها ذلك المغربي الذي ابتزها ومارس الجنس معها ثحت قنطرة الطريق السيار بإلخيدو، كانت قد وثقت فيه لأنه طالب تقدمي ، ويعرف الكثير عن تاريخ بلادها الثوري وأسماء الشخصيات التي لعبت فيه الدور الأكبر كما كان يحفظ الكثير من كلمات روسيا التي كان يرددها الرفاق في الجامعة المغربية، كانت تتذكر جيدا عندما دعاها إلى تحت القنطرة، لم تكن تعرف أن ذلك كان بدافع نزوة بل حسبتها مرورا إلى الجهة الأخرى للطريق السيار ، وكثيرا ما كانت تبتسم ساخرة من الأمر حين اعتقدت أنها مع نشيط متمدن يحمل مباديء كونية حول حقوق الإنسان :
ـــ كان أول المرحبين بي عند نزولي في محطة المسافرين في إلخيدو،لذلك لم أقاومه عند القنطرة خوفا من أذى محتمل خصوصا وأننا ابتعدنا كثيرا عن المدينة.
ـــ التقيته ذات يوم في بوابة السوق المركزي وما ان التقت عيني بعينه حتى خر هاربا،، استدركت نطاتشا وهي تضحك من نفسها
كانت لاتريد أن تقاضيه في المحاكم تجنبا بأن لاتصطدم بالبوليس واكتفت بأن تجعل الخوف يراوده أينما حل وارتحل سواء كانت هي من يلتقيه او شبيهاتها
بسبب من ذلك كانت نطاتشا لا تثق فيي كثيرا ولا تأمن أن يتركنا نيكولا وحدنا،قالتها مراة عديدة، أما نيكولا، فكان يثق بي كثيرا، فأنا من أهداه أول تشابولا كانت مهجورة بجانبي، وأنا من حض أصدقائي من بني بلدتي على إدماجه في بيئتنا وكنت من حقق له أول اندماج حضاري في إلخيدو قبل أن يكتشف حانة أولغا ويعرف رفائيل،كان هذا أول اندماجه رغم أن التواصل بيننا كان شبه مستحيلا ، فأنا لا أجيد اللغة الإسبانية ولا هو كان ينطقها أصلا، وكنا غالبا ما نتفاهم بالإشرات.
كان نيكولا مثل أولغا يشده الحنين إلى حقبة بريجنيف الملعون عندنا في الجنوب ، فهو عنده لم يكن بريجنيف يترك أي طلب للشباب دون تحقيقه أما لعنته عندنا فهي أنه استثمر ماوفره السابقون في تلبية المطالب الإجتماعية وقاد الإتحاد السوفياتي إلى انهيار حقيقي، هذا ما قاله، على الأقل أحد رفاقي المنظرين. نيكولا أخبرني ذات يوم بأن لينين لم يكتب كتابانه بل صاغها رفاقه الكثيرين من أدمغة روسيا حينذاك،وكنت أقبل منه ذلك من منطلق تجربة حكامنا في العالم العربي الذين كانوا يتلون علينا خطاباتهم التي كتبها مستشاريهم أو كتبتها لهم المخابرات، لكن في الحقيقة لم أحتقر يوما عبقرية لينين وأنا أومن إيمانا فلسفيا، بغنى تجارب الأفراد حتى وإن لم يعرفوا الكتابة ولا القراءة،من منطلق أن كثيرا من الأبحاث لكثير من المفكرين، تملكوها فكريا انطلاقا من تجربة الآخرين وصارت إنتاجاتهم برغم أنهم لم يعايشوها ،و صارت نظريات لهم أيضا.
نيكولا أيضا كان معجبا بتشي، ويعلق عليه دائما :
ـــ خصارة غيفارا ليست فقط في استشهاده، بل في كونه ثوريا ميدانيا لم يصقل تجربته الميدانية بتنظيره الفلسفي للأحداث، يعني أنه لم ينتج إيديولوجيا مثل لينين أو ماو، بل ترك الأمر للصحافة التي خذلته واكتفت فقط بنقل مغامراته الميدانية في ساحة الحرب، لذلك لم تصلنا عبقريته الفكرية برغم حضورها الصارخ في ممارساته النضالية.
ـــ لكن برغم ذلك ذلك يبقى ثوريا عالميا بحجم لينين، أليس كذلك؟
ـــ صحيح، وبسبب من ذلك ضاعت صيحته
ـــ لكن لم تضع صيحته
ـــ لقد فوت عبقريته على بلده الأصلي وضاعت ثورته في جبال أمريكا اللاتينية كما ضاعت ثورة العبيد في روما، لم يفعل ما فعله لينين أو ماو برغم اختلافاتهما
ـــ لكنه صنع بيئة ثورية في أمريكا
ـــ صحيح، وبسببه أصبح كل من يتحدى أمريكا ثوريا
ـــ حسن، حتى جاك شيراك؟
ـــ نعم، قالها ساخرا
سخرت من نفسي عندها، فالحقيقة أن صورة غيفارا وظفتها أيضا الماكينا الدعائية للشركات الإمبريالية حين صورته يأكل الهامبورغيسا في مطاعم ماكدونالد؟ في الوقت الذي لم يستطع ورثته المخلصين من التخلص من الحضور في حفلات ماكدونالد؟
ـــ آه تشي غيفارا..! قلتها بتأسف ورد علي نيكولا
ـــ لاتتأسف فنحن ضيعنا الثورة
ـــ لا ليس الأمر كذلك، أنتم تراجعتم خطوات إلى الوراء كي تعيدوا الركب من جديد، على الأقل ثورتكم رفعتكم إلى مستوى معين من القوة التي كثيرا ماتغازلون بها لتحقيق مصالحكم
ـــ تقصد التسلح النووي
ـــ تماما، أقصد الجحيم النووي
ـــ يا أخي لماذا تحملني ما لم أكن احمله، أنا هنا معك نتقاسم وطر الغربة، على الأقل لم نفتقد انسانيتنا كما افتقدها الآخرون الذين يتبجحون الآن بالحقوق في وسائل الإعلام، السنا في هذه التشابولات نمثل نموذجا رائعا للتعايش، أنظر إلى يدي، لاأحمل إلا كأسا لا بها سأبتزك ولا أنت تجبرك على احترامي.
ـــ هذا كله بفضل خطيئة داروين
ـــ مادخل داروين في الأمر؟
ـــ هو من انتزع قدسية الاجناس للبشر
غريب جدا نيكولا، فهو أصلا من ضحايا الفودكا، وفي كثير من المرات لايعرف أين تطأ رجله، وصديقته الروسية هي من يلحقه بنوالته ، رغم أنها السبب في تعلق رفائيل به ، رفائيل مغرم بناطاتشا الجميلة، التي تمتلك سحر الملائكة بفضل مهنتها،ولولاها لكان نيكولا الذي يمجد رفائيل مجرد فرد في سوق النخاسة، لكن لناطاتشا سحرها الآخر ، فهي امرأة ممانعة جنسيا ولا تضع متعتها في يد أي راغب ، فهي كثيرا ما تعترف لنيكولا بأنه الوحيد في حياتها وأنها لم تذق طعم الجنس إلا في بلاد الجارة والوادي. لذلك لم يكن رفائيل محظوظا لأنه سقط في مخالب امرأة لها خيار الإنصياع لذاتها وليست طموعة في إرضاء عيونه. حتى وإن قبل نيكولا فهي لن ترضخ . وهنا ترتفع ثقافات الأنوثة إلى عالميتها، الإناث يعشقن فقط أمراءهم. لكاترينا، صديقتي، الحق
في هذا القول، فهي تسميني سلطان فراشها وسريرها كلما انزوينا ، وهي لذلك، ولمدة عامين لم تخالطني بغيري رغم كثرة عشاقها، وبشتى الإغراءات، هذا ماكانت تقوله ، وهذا ماكنت أعتقده على الأقل، و في كثير من المرات،أو ربما هذا ما تغوي به النساء لتدع مساحة من الود بينك وبينها .أما نيكولا، فكان من حظه أن نطاتشا لم تفارقه المدة التي لزمتها بإسبانيا ومن حظه أيضا أن رفائيل كلما اشتاق لرؤية نطاتشا،لا يتردد في المجيء إليهم ليأخذهم إلى أحد الملاهي الليلية كي يحظى فقط بلمسة منها، كان نيكولا يمثل جمرة في جيب رفائيل، فهو لايستطيع أن يتركه لأجل عيون نطاتشا ولا أن يحظى بناطاتشا في حضور نيكولا،كان حبه يذكرني بحب البغال للفرس في المغرب، فحب البغلال للفرس أشبه بحب الأمومة منها إلى الحب المفعم بالنزوات الجنسية، أي أن لمسة من نطاتشا لرفائيل تكفيه ليصول ويجول في ذكرباته الطفولية بينما كان نيكولا عائقا حقيقيا في وجهه رغم أنه في نفس الوقت لايمكن أن يتخلى عنه، وكان أيضا يتغاضى عنه في كسله أثناء العمل تقديرا منه لليالي التي يقضونها في السهر جميعا، يحتضن الثلاثة المائدة في حانة أولغا،نطاتشا تتوسط الإثنين، رفائيل يطلب من النادلة أن تأتي:
ـــ قنينتين من الجعة من فضلك واسألي نطاتشا، ماذا تريد
ـــ كأس من شراب النبيذ الصيفي
النبيذ الصيفي هذا هو آخر ابتكار لتوديع نهاية القرن العشرين ونخب الدخول إلى الألفية الثالثة ويسمونه في الإسبانية: بينو ديلفيرانو، وهو خليط من النبيذ الأحمر مع إحدى المشروبات الغازية ذات الطعم الفاكهي.
من سمات الشرب في حانات ألميريا هذه الخصلة التي لا تتواجد في كثير من الأقاليم، وهي أن يطالبك النادل بأن تختار في قائمة المأكولات المتوفرة لديهم وهي غالبا مأكولات جاهزة أو سريعة التحضير واداؤها متضمن مع سعر المشروب الذي تختاره وهي عمليا كما يقال من كرامات فرانكو لتخفيف الثمالة عند الإسبانيين، أو عند الجنود الإسبانيين أثناء الحرب الأهلية
وهي من الأشياء التي تخدم إيجابيا السياحة الإسبانية ،أما عندنا في المغرب فكنا نسميها "القطعةًَُ"بفتح القاف والعين
تضع أولغا المشروبات وتسألهم عما يريدون من القطعة
ـــ الهامبورغيسا، قالها رفائيل، أما نطاتشا ففضلت السلاطة الروسية كما اختار نيكولا السمك المشوى، ثم انضاف إليهم خوان الذي يملك هو الآخر ثلاث هكتارات بجوار رفائيل متسائلا عما إذا كان بإمكان رفائيل أن يدع اثنين من عماله غدا ليعملو معه في عملية الغرس لأنه لايثق في اختيار أي كان من الموقف(بضم الميم)، خصوصا وان موجة جديدة من المهاجرين وصلت هذه الأيام، وهم مع كونهم شبان في مقتبل العمر ويتمتعون بحيوية فائقة إلا أن أغلبهم لم يمارس بعد العمل في الحقول كما ان عملية الغرس تتطلب خبرة و فنية في الممارسة وسرعة في التنفيذ اما المهاجرون الجدد في انتظار أن تتمرس مهاراتهم في العمل، يكون المحظوظون منهم قد بدأوا الشغل عندما تنموا الغلة، ومع أن المسألة ليست هكذا بالمطلق فإن المحظوظ أكثر هو من حصل على مشغل منذ بداية الغرس حتى نهاية الموسم دون مراعات لتلك المهارات،أنطونيو مثلا كان يفضل العمال الأكثر صغرا في السن على المتقدمين منهم ولا يراعي أي اهتمام لمدى خبراتهم. ففلسفته في الشغل تقوم على أساس ترويض العامل وفق مهارات بعينها لاتطبق إلا عنده، وكان بذلك يحرص أن يبقى العمال طيلة ما اردوا من المواسم ما داموا بدون أوراق رسمية وما دام نفوذه يصل إلى دوائر متمكنة، تجعله بعيدا عن أعين مفتشي الشغل بحيث ما أن تكون ثمة حملة في التفتيش حتى كان معلوما بها بحيث يقوم بإجراءات الحيطة والحذر حيش أن يستعمل إمكانته الهائلة خدمة للإحتماء من أية مفاجأة لأن ضيعته مغلقة وتتوفر على عدة أبواب على جهات متفاوتة إضافة إلى توفرها على باب رسمي يفتح بطريقة إليكترونية مما يجعل من ضيعته أنها صالحة للمناورة في أية لحظة
أما خوان فكانت أعماله تقوم على سواعد عائلته طيلة الموسم ولا يحتاج إلى اليد العاملة إلا في عملية الغرس أو في نهاية الموسم عند اخلاء الحمام البلاستيكي من البقايا والنفايات المتخلفة.
لاس نورياس
كان المقهى إذن مقهى عمومي ولاشك في ذلك ، وانا عرفت لتوي ذلك انطلاقا من الملصقات وسبورة الأثمنة، تخيلت أن تلك الوفوذ الواقفة في الجنبات والتي لم يعييها الوقوف، وبسبب من الأحداث الأخيرة التي عرفتها المنطقة، تصورت أن المغاربة بسبب التنكيل الذي طالهم في تلك الأحداث وبسبب ظروف العيش التي تفتقد فيها ادنى ظروف الحياة الكريمة والإستغلال البشع في الضيعات وتبعات رفض الباطرونة تشغيلهم بعد الأحداث وانطلاقا من فراغ المقاهي هذه تصورت أنهم واحتجاجا على كل هذا هم في إضراب لمقاطعة منتوجات السكان المحليين القليلين، بدت لي لاس نورياس كما لو أن سكانها المحليين هم الجالية وليس العكس، لكن للمسألة تفسير آخر،اكتشفت فيما بعد أنها الضاحية وليست المركز، صارت كذلك بمحض الصدفة، فالضيعات البلاستيكية تحاصرها من كل جنب، بحيرتها الصغيرة التي كانت مرتعا للطيور المهاجرة لم تعد تنزل فيها بسبب التلوث الذي طالها والسكان المحليون بدأوا يتأثرون بحساسيته كما الطيور وبدأ يطيرون إلى الجهات التي لم تتلوث بعد ويؤسسون مدنهم الجديدة، تذكرني الضاحية هذه بجوهانسبورغ التي ملأت أطيافها عيوننا منذ الصغر، لكن بشكل مقلوب الأغلبية فيها هم الأوباش والأقلية هم السكان المحليين،أما تفاعلات الأحداث فكانت هي هي، فيما بعد ذلك ، وبشكل متأخر فهمت لماذا كان أحد الذين شغلوني ذات يوم يسألني عما نريده منهم ويقول لي صراحة : هل تريدون إعادة احتلال الأندلس؟ فهمت لماذا صارت لاس نورياس هي الاندلس وكنا فيها المحتلين الجدد. الآن بدأت معالم الحياة تتوضح شيئا فشيئا، المحتلون الجدد ليسوا هم الذين في إضراب بل السكان المحليين هم الذين يقاطعون خدماتهم وزبانيتهم . كان من الصعب علي تفهم هذه المقاطعة المعكوسة التي أدت في حدتها إلى نزوح الكثير منهم إلى الميريمار تلك المدينة الهادئة التي تحتضن شاطئ البحر الابيض المتوسط في الجهة الغربية لمدينة ألميرية. كم كنا حقيقة نزاحم السكان المحليين، كان الواحد منا، ما أن يحصل على سكن حتى ينادي بعضا من عناصر فصيلته ليقطنوه جماعة، ومن ثمة كلما كان الجمع كبيرا كلما ضاق الأهالي وبدأوا ينزحون الواحد تلو الآخر حتى تحولت القرية إلى مستعمرة جديدة للوافدين من الجنوب، هكذا كانت المفارقة ، الشماليون عندما ينزحون إلى الجنوب يحملون معهم بنادقهم وأسلحتهم المتطورة لينشروا فينا ديموقراطيتهم بينما الجنوبيون عندما ينزحون إلى الشمال ياتون على شكل فيضان بشري لينشروا عدوى التخلف والأمراض الإجتماعية فيسهل عليهم إزاحة كل الصعاب ويفرضون قوانين جديدة للهجرة كما هم أيضا يطالبون بالمساوات:
ــ في البداية، كنتم تطلبون منا فقط تسوية وثائقكم للعمل هنا لتسهيل زيارة بلدكم وعائلاتكم والآن تريدون الدوام؟ الآن تريدون ترحيل أهاليكم أيضا؟، قالها مشغلي الأول
ابتسمت له وقلت نعم ،لأن هذه النعم هي المخرج من مأزق التكلم بلغة البلد الجديد، ولأنني أيضا لا أتقن لغته، حاولت أن أوصل له بأن بلادهم جميلة وفيها الكثير من الحرية والديموقراطية.
ــ نعم ولكننا نحن ناضلنا من أجل ذلك وقدمنا التضحيات الجسام، الشعب الإسباني دفع الثمن
لم أجد ماأرد به على المشغل لأن اللغة كانت تقف حاجزا أمامي، أضحك ضحكة غالبها الحياء، فيستدرك هو غباءه الأناني قائلا: إسمع أنا لست عنصريا، فقط أريد أن أذكرك بأن حكامكم يجمعون الأموال تحتهم ولا يهتمون بكم ، ونحن نعطيهم المساعدات ليحلوا مشاكلكم فيأخذونها ولا يفعلون شيئا، عليكم أن تناضلوا ضدهم. مضغت هذا التحريض دون أن أستطيع أن أبلغه بأن مساعداتهم ملغومة وأنها تقوي الأنظمة علينا أكثر مما تحل المشاكل..
كان الموضولو رقم ثلاثة في الحقيقة ثمرة تتضحيات المهاجرين في أحداث إليخيدوالمعروفة وكان يشرف عليه الهلال الأحمر الإسباني ، الهيأة الوحيدة التي التي امتصت الإنفجار الإجتماعي وذلك في مساهمتها القيمة في إرسال المهاجرين "الثوريين" للعمل بمناطق الشمال، فيما بدأت الباطرونا المحلية تبحث عن عمال يقر فيهم الجميل الذي أغرقوا فيه عمال الضاحية الناكرين مما حدى بالحكومة اليمينية المتعاطفة مع السكان بالسفر إلى دول أمريكا اللاتنية لجلب العمال من "أبناء العمومة". فجأة استيقظ ضمير الحكومة اليمينية وتذكرت أمريكا اللاتينية التي أغرقتها بالتخلف والإستغلال أيام عهود الغزوات المجيدة عندما كانت الممالك تحكم المستعمرات بقانون النزوات، استيقظ حنين الحكومة فجأة فرأت أن تغرق أبناء عمومتها في جميل الشغل تحت سقف الحمامات التي تحميهم من لفحة الشمس. أما نحن الوافدون الجدد، فكانت مصيبتنا مزدوجة، فمن جهة مازال السكان مضربين عن تشغيلنا مما يعرضنا إلى المجاعة الحتمية لولا السرقات الظريفة التي كانت تسطو على الضيعات أثناء الليل ، سرقة المنتوجات المحلية كالطماطم والبتيخ والقرعة والدلاح وما إلى ذلك أما اللحوم فكنا نستوردها من بعض المراعي القريبة منا، أما البرجوازيون منا الذين أنعم الله عليهم برضى بارونات التجارة الدولية ،تصدير الحشيش المغربي، فكنا نتمتع ببعض كرمهم بعد كل عملية إنزال في إحدى مناطق الشاطئ فكانوا يأتون إلينا ليحتفلوا بالنجاح الباهر أو ليترقبو إحدى عمليات التصدير الليلية، وكان تواضعهم المنقطع النظير أنهم يقبلون استضافتنا لهم ولو في تلك المربعات الضيقة عملا بقول حاتم المغربي :"الضيف مايشرط أومول الدار مايفرط" كانو يشتركون معنا أيضا حتى في غطاء النوم، وأحيانا وتجاوزا لضيق الحال، وتخفيفا على راحتنا، كانوا يفضلون النوم في النهار ويذهبون إلى الموانئ الطبيعية في الليل. ومن جهة أخرى كنا بمثابة محطة استراحة للمسافرين من وإلى المغرب، كانت ساحة الموضولو تعج بالسيارات،القادمون من المغرب لاتحلوا لهم صلاة الجماعة إلا في الموضولو وفي الصباح يتممون رحلتهم إلى الشمال وكذلك كان القادمون إلى موسم العبور المغربي، أما المتصوفون منهم فكان يحلوا لهم أن يحتفلوا بقداس الخمر عندنا يستمتعون بأحاديث التراث العربي من زمن الخمريات في المشرق أو الأندلس التي كان يلقيها أحد المهاجرين الملاحدة، وإذا ما صادف أن يلتقي الفريقان، يلزم كل فريق حدوده يبدأالمسلمون بإعطاء دروس الإرشاد والتوعيظ التي تلقفوها في الشمال من وحي الإسلام الأروبي أما المتصوفة فيستوعظون بالأئمة الجدد وغالبا مانرى أن أحدهم قد استسلم للوعيد وبدأ صلاته الأولى في الصباح، لم أر في حياتي أجبن من المتصوفة المهاجرين وأتعسهم على الإطلاق، بسهولة فائقة يملأون جعبة المرشدين بالحسنات وينعون طقوس التصوف بسرعة فائقة. أما صاحب أدبيات الخمرة فيلوذ بالصمت إلى أن يذهب الجميع، ليبدأ طقوسه من جديد، وذات يوم أبتلي "عبابو" بالصلات ، وبعد يومين من العبادة والتقوى بدأ هو الآخر يرشد الآخرين فما كان من الملحد أن خر ضاحكا ، سأله عبابو عما يضحكه فرد عليه بأنه تذكر شيئا عن كيفية صلاة جدته الأمازيغية.
ــ وما علاقة ذلك بي
ــ تساءلت مع نفسي هل تقرأ آياتا من القرآن في صلاتك، فأنا أعرف أنك لاتحفظ حتى الفاتحة
ــ ولكن أكتفي بالآيات التي أعرف
ــ ليس كجدتي إذن التي كانت لاتحفظ ولو آية واحدة، وعندما سألتها بما تهمسه أثناء قيامها قالت بأن فقيه القبيلة قال لها بأن النية هي الأساس في كل عمل ،قال لها انظري إلى ذلك الجبل، إنه أكبر منا، فقالت، نعم، وقال، وذلك الآخر أكبر منه وذاك الآخر أكبر منهم جميعا إذن فالله أكبر من كل شيء فما عليك إذن إلا أن تفكري أثناء قيامك بهذه الطريقة وسيغفر لك ربك.
ضحك عبابو مليا فقال : الفكرة ليست قبيحة، مع أني عندما أقوم بالصلاة أشعر بأني لست مقتنعا بعد، مازالت صورة "الجبلي" و"عبدو" المنافقان تختلج ذاكرتي ، هل تتذكر يوم تخاصما حول السجادة عندما تركها عبدو في الممر.
ــ الشيطان هداك، مازال تايدور ليك فالراس، رد علية الملحد.
كان عبدو يصلي في الممر المؤدي إلى الضيعة عند المغرب ولما تم من صلاته ترك السجادة لألجبلي كي يصلي فيها إلا أن الجبلي لم يعجبه الأمر لأن الشيطان، حسب اعتقاده، سيجلس عليها عندما تترك مفروشة، فتخاصما الإثنان مدعيا كل منهما أنه هو الذي على حق، فامتحنا الإثتين إلى الرفيق الملحد الخبير بالتراث ليخبرهم بأن المفترض في الصلاة أنها تقام في الطهر وأن الشيطان لايقترب الطهارة بل يعاشر النجاسة فما كان من الاخوين في الله أن استكنا للحكم.
كان عبابو يكرههما كثيرا لأنهما وشيا به عند مكتب الصليب الأحمر مشتكيين من صداعه أثناء السكر إلا ان الصليب الأحمر رد عليهما بأن الجعة غير محرمة في إسبانيا ، وما عليهما إلا أن يبحثا معه في صيغة التعايش السلمي. ومنذ ذلك اليوم بدأ يحمل لهما الأحقاد والكره إلى أن تفجر الوضع بينهم في الأسبوع الأول من رمضان عندما انقطعت عنا زيارات الكرم العابرة في الإتجاهين، ونفذت منا سلعة العشرة والمدد حيث امتنع الأخوين المحظوظين بالعمل بالمشاركة معهما في العشرة لأن الرفاق ومعهم عبابو أعلنوا ثورتهم عن الملة والدين واحتفظوا بوجبات الأكل في مواعدها العادية الشيء الذي لم يعجب المصليين واعتبروه مخلا بالإحترام الواجب في حق الشهر المبارك، فكانت اللعنة كبيرة على الرفاق العاطلين. كان عبو يختزن البيض في كيس معلق أمام جبهته لتبقى أمام عينيه دائما وباقي المواد في علبة تحت سريره، وكان، ذات يوم متكئا في سريره ولما ناداه مشغله ليعلمه بعمل الغد، قفز مسرعا إليه، ولما عاد إلى سريره وجده ملطخ بمح البيض، أشعره عبابو عندها بأن ذلك من علامة اللعنة الرمضانية ، فضحك الجميع منه. ومنذ ذلك اليوم بدأت اللعنات تتوافد علينا ، زارنا في اليوم الموالي أحمد الطويل قادما من مدينة مورسيا مصحوبا بأحد أصدقائه، كان جائعا ويريد تناول شيء بحث عن أي شيء يسد به رمقه فلم يجد شيئا، وتفاديا لألا يلمسا زاد الأخوين، أشرت إليه بأننا لانملك شيئا وبأننا نعيش على النباتات (الخضر التي نسرقها ليلا من الضيعات)، نظر إلي مستغربا، ثم أشار لصديقه قائلا:
ــ هيا نذهب إلى حالنا قبل ان يموت أحد هؤلائي جوعا فنتهم فيه، ثم فكر برهة متداركا الأمر فقال لصديقه بأمازيغيته البليغة:
ــ يالاه اذ ندبر إميدناذ مغا تشين (هيا نتدبر شيئا لهؤلائي الناس يأكلونه)
خرجا في فسحتهما الغامضة إلى أحد الحقول القريبة، حيث كان أحد الرعاة يرعى قطيعه هناك فاقتنصا منه عنزة وذهبا بها إلى داخل الممرات الضيقة بين الحمامات البلاستيكة وذبحاها هناك وتركاها إلى أن حل الظلام ليأتيا بها ليلا ليحتفل الجميع بالفريسة. كان المهاجرون السابقون لنا أكثر جرأة في الإتيان بهذه الأعمال أما أنا فكانت أول غزوة شاركت فيها كانت جني بعط الطماطم من إحدى الضيعات لاستعمالها في الحريرة التي كنت أتقنها بامتياز، ولما كان اعبابو يفتح ثقبا في الجدار البلاستيكي ، كنت أنا مرعوبا بالخوف، ولما دخلنا من خلال الثقب كان همي الكبير أن تتم العملية بسرعة، لذلك كان كل ماكتسحته من الطماطم أخضرا لم ينضج بعد، وكنت خلال العملية لم اتنفس الصعداء حتى اقتربت من الموضولو مهرولا نحو حميمية الضيق، كان الفضاء ضيقا بامتياز بوابة الضيعة التي يقع الموضولو في ملكيتها، الجدار البلاستيكية التي تلفنا من كل جنب ظلالها الرطبة برطوبة الأسمدة المذابة في مياه السقي، بركتها المائية التي تسبح فيها الأواني البلاستيكية وقطط شاردة مصابة بعدوى التوالد التي تلقتها من الجنوب وكلبة عبابواللقيطة وحصار اسمنتي كنا نبنيه حولنا من رجال الحرس المدني الذي بدأ ينتصب في الممرات على ممتطيين فرسانهم احيانا وأحيانا في سيارات الدفع الرباعي ، كان الحديث الشائع بيننا هي الأخبار التي يحملها إلينا المهاجرون الشرعيون عن دوريات الشرطة في المدينة ونقط المراقبة المحتملة وكذا عدد الذين طردوا وكانت إشاعات في البعض منها يراد بها ترويضنا كالبهائم وإخضاعنا المطلق لسلطة المهاجرين القدامى وما أن تزورنا دورية من الحرس المدني بالموضولو حتى نبدأ نحن في تهييء نفسيتنا المهزوزة لكل الإحتمالات وتقبل الخصارات المادية التي دفعناها في كل الرحلة، بصدر رحب مستسلمين لقدر الحرس المدني، وكان ما أن ينطق أحدهم بأن العملية لاتتجاوز إحصاء روتينيا يقومون به، حتى نستعيد الأنفاس، وما أن تذهب الدورية حتى يستقيم الضيق في أفقك مرة أخرى:
" الحكومة اليمينية تستصدر تشريعات جديدة حول المهاجرين السريين" كان العنوان العريض الذي تتناقله وسائل الإعلام إضافة إلى ردود الفعل المتناقضة من الأحزاب والجمعيات، كل حسب موقفه من الحكومة، منهم من يتكلم عن لادستورية التشريعات الجديدة، ومنهم من يهدد في الذهاب بعيدا حتى المحكمة الدستورية، أما نحن فكنا نتلقى أبجديات اللعبة الديموقراطية في بلاد الحرية ونأخذ من الجدل الدائر كل ما يناسب طموحنا العارم للعيش في جدار الغربة ، نكره اليمين الذي يكرهنا ونعشق اليسار الذي يشفع لوضعنا ،لم ندرك بعد أن الجدل المفتعل ليس إلا زوبعة رائعة تتقدم التشريع وان الأخذ بالامور جديا يأتي عندما يصوت البرلمان.
كان لدينا جهاز للتلفاز إلتقطه أحد المهاجرين الشرعيين في منطقة الروكيطات، وجاء به إلى الموضولو مدعيا أنه اشتراه كي نشارك في أداء سعره التي تقيأه علينا والتي دفعناه كلنا إلا صديقنا الملحد،دفعناه كي نستمتع بطيف المذيعات الشقراوات التي تحبل بها القنوات، فوضعه الصديق في زاوية ما بالشكل الذي لايستطيع الملحد أن يستمتع بالرؤية إليه، ولم يكن هو الآخر مهتما ، كان يتجاهل وجوده إلى أن انتبه صاحب التلفاز بحنكته الإبتزازية إلى مكرالملحد الدفين، لأنه كان الوحيد منا الذي يتقن اللغة الإسبانية ولم يكن في حاجة إلى الصورة، لذلك أرغمناه على دفع حصته وإلا لن نشغله حتى يدفع أتاوته وكان منه أن استسلم لابتزازنا الجماعي لنعالج وضع التلفاز من حيث يستفيد منه الجميع وهكذ بدأنا نتلقى تلك الأبجديات الأولى للعبة سحرتنا في المغرب وأردنا أن نعايشها بأنفسنا .
كان حديثنا اليومي متخما بالتسوية القانونية لوضعيتنا، وكنا نرى فيها المفتاح السحري لوداع طوعي لغابتنا البلاستيكية التي ينعدم فيها الأمن، كان الخوف يحدقك من كل جنب، من ضيوفنا الرحل الذين يأتون من الشمال او الجنوب من السرقات الصغيرة والكبيرة التي تؤمن الغذاء، ومن الاهالي من السكان الفاشيين أيضا لأننا كنا نسمع أخبارا لانتحارات مجانية هنا أوهناك من طرف المهاجرين، كانت تتم بنفس السيناريو تقريبا (فلان وجد منتحرا في مسبح الحمام)، كنا نستيقظ في الصباح، نذهب إلى الموقف ومنه إلى البحث المضني عن اصدقاء الإحسان للبحث عن سيجارة، وإذا كان لديك شيء من المال تذهب مباشرة لشراء السجائر على بعد ميل أو ميلين مبتدعا طرقا ملتوية لتفادي رجال الحرس المدني الذين تنبهوا للأمر هم الآخرين فأخذو يستعملون علينا المداهمة بالخيل بدل رباعيات الدفع ليتمكنوا من الدخول إلى الممرات الضيقة، وعندما نعود إلى الموضولو كان كل منا يحمل إلى الآخرين خرافاته الجديدة، كنا مازلنا لم نستوعب بعد الجدل الدائر حولنا، كنا نأخذ التصريحات الإجابية عن مسؤول في جمعية ما حول الظاهرة الجديدة التي نشكلها بمثابة الميثاق حول تسوية جديدة، وكنا نفرح لهذه التصريحات وننسج عليها تخيلاتنا الجديدة المبشرة لولادة جديدة، بينما هي لم تكن سوى وجهة نظر لأصحابها لاتسمن ولاتغني من جوع، كنا أيضا نتبادل المعلومات حول الضيعات التي لايحمل أصحابها ضغينة للمورو لنتسابق إليها في الصباح بحثا عن فرصة شغل وأحيانا كنا نزورهم في كل يوم بناء على الإحتمالات الممكنة التي بدأنا نستوعبها انطلاقا من المعلومات التي نجمعها حول بنية الشغل، بدأنا نعرف أطوار الموسم الواحد التي يتطلبها الشغل في الضيعات، أي أننا بدأنا نستوعب متى تتطلب الضيعة كثيرا من العمال ومتى تتطلب القليل منهم استنادا إلى مساحتها ونوع البضاعة المزروعة فيها وعدد العمال بها وكيف هو المشغل الذي يديرها، كانت هذه العناصر تمكننا من أن نخمن حول احتمالات الحصول على فرصة الشغل، فإذا كانت الضيعة مزروعة بالقرعة، كنا نعرف مسبقا أن الشغل فيها يتطلب نصف يوم من العمل يوميا،خصوصا إذا كانت مساحتها لاتتعدى هكتارا واحدا بينما نفس المساحة من الطماطم تتطلب على أقصى تقدير ثلاث عمال أو أربعة حسب كثافة المنتوج ويتوزع الشغل فيها بحسب كثافة نضج المنتوج وحسب الجو المناخي إذ أن الأيام التي تمطر تعتبر كارثة بالنسبة للمزارعين و هي الأيام التي يتلقى فيها يسوع سيلا من القذف والشتم رغم أن أكثر حافلات نقل منتوجاتهم تتصفحها صور مريم العذراء وابنها يسوع الذي تعلو هامته تاج من الشمس يشيع نوره إحالة إلى الهدى والإيمان.
كان منا الذي لايبحث عن الشغل صباحا بمثابة نذير نحس للمجموعة وكان كل فراد من المجموعة إذا وجد شغلا عند احدهم يسأله عما إذا كان يحتاج عمالا آخرين ليجلبهم له من المجموعة وهو شكل من أشكال التضامن بين الأفراد للتعاون على التغلب على المصاريف اليومية وبهذه الطريقة كنا نستمد بقاءنا صامدين في صحراء البلاستيك، كنا صامدين أمام كل الهواجس التي كانت تحيط بنا والضغوطات والإكراهات التي كانت تمارس علينا سواء من المهاجرين القدامى أو الدوريات البوليسية أو الصراعات فيما بيننا أو حتى الصراعات النفسية التي يعيشها الفرد مع ذاته في علاقاته مع الآخرين أو مع وضعيته القانونية أو هواجسه المستقبلية حيث كلما طال بنا البقاء دون حلول بدأنا نختلق أشياء للإستجداء والتقرب إلى ما يريح النفس، لم نكن مستقرين على حالة واحدة، فكثير منا من انتقل من حالة المؤمن التقي إلى حالة الساخط المدمن على الخمر أو على التدخين، كان الملحد الذي قاوم ضغوط الأتقياء الرحل الذين كانوا يمضون استراحة المحارب عندنا في مواسم العبور قد بدأ هو الآخر يصطحب إناءه للوضوء للصلوات أما عبو الذي كان يفترش السجادة بعد رحيل الجبلي فقد كان يرسل معي نقودا معدودة خفية من الآخرين كلما ذهبت للتضبع لكي أشتري له زجاجات من الجعة ويأمرني أن أكتم الأمر على الآخرين، وأن أضعها في الثلاجة مدعيا أنها لي إلى أن انكشف أمره ذات يوم عندما كان منع عبابو من تناولها مدعيا أنها لي، وانه لاحق له في أخذها إلا باستئذاني عند عودتي وإلا سنخلق نوعا من الفوضى مفادها أن ذلك سيفتح الباب ، على مصراعيه للسرقات فيما بيننا أثناء الغياب، فما كان من عبابو أن أخذها رغما عنه مدعيا أني لاأتكلم في مثل هذه التفاهات، وعندما عدت أمرني عبو أن ألزم عبابو بشرائها مما وضعني في حيرة من أمري اضطررت معها إلى شرائها من جيبي الخاص حفاظا على ماء وجه عبو ليأتيني عبابو بها هو الآخر معلنا أنه يتفهم إحراجي وأنه يعرف أنها ليست لي وأنه تعمد فعل ذلك ليرى ردود فعله.لم يكن أي من المجموعة مستقرا في هواجسه، ولم يكن أي منا يتحمل الآخر إلا في حدود ما تلزمه العشرة المشتركة، كما أن المستويات الثقافية المتباينة بين أفراد المجموعة كانت تقحم كلا منا في عزلة ذاتية يفرضها على نفسه تحسبا للإسطدام وكان الواحد منا يمارس طقوسه بعيدا عن الآخرين إلا من كانت لديهم سلطة معنوية على الموضولو بفعل أقدميتهم، فهم كانوا يمارسونها علنا ودون إحراج..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق